للقرآن نغمه الذي يشنف الآذان، ويطرب الأسماع، وهذا النغم مستمد من طريقة أداء حروفه التي اجتهد فيها القراء فوضعوا لها ضوابط وأحكاما، وأطلقوا عليها «علم التجويد» الذي عرفوه بقولهم هو إعطاء كل حرف حقه من المخرج ومستحقه من الصفات الصوتية التي تعطي معاني لا تعطيها صفات أخرى.
والاقتصار على معرفة الحروف وصفاتها فقط لا تعطي متعة الاستمتاع بالقرآن الكريم؛ مما جعل العلماء يحددون التجويد قائلين بأن التجويد هو معرفة الحروف، وإجادة الوقوف.
ولكن مع الالتزام بقواعد علم التجويد المحدودة نظريا، يلاحظ المستمع لآيات القرآن أنه يحب أن يسمعه من أفراد دون آخرين، لما يتميز به البعض من حسن في الصوت وجمال في الأداء.
والقراءة التي تؤثر في القلوب وتستهويها الأفئدة هي منظومة من المفردات تكون جملة مفيدة من صوت عذب لا يتمالك المرء أمام جلاله وجماله إلا أن يقول «الله».
وهذه المفردات تتمثل في إتقان لأحكام التلاوة أثناء القراءة، وإجادة الوقوف على جمل مفيدة، ثم براعة التصوير لآيات القرآن الكريم؛ فيشعر السامع لآيات الجنة أنه يتمتع بنعيمها، ويرتعد خوفا عندما تصور أمامه مشاهد النار بجحيمها.
وهذا التصوير يقدر عليه أحد قارئين: الأول أعطاه الله موهبة فطرية في صوته؛ فطبيعة صوته تتسم بالقوة والجمال، فصوته موسيقي بطبيعته، مثل الشيخ الحصري والشيخ النقشبندي مثلا، والقارئ الآخر لا يكون صوته جميلا ولكنه متقن لأحكام التلاوة ومتقن للمقامات الموسيقية التي يتدرب عليها كثيراً؛ فينظم بها طبقات صوته فيصبح أكثر تأثيرا وأبرع تصويرا، ومن هؤلاء الشيخ مصطفى إسماعيل الذي هز بصوته الأفئدة واستطاع أن ينظم طبقات صوته من خلال إتقانه للمقامات الموسيقية التي لم تطغ على أحكام التجويد فأصبح مدرسة لكثير من القراء؛ فمن نغمه يتعلمون، ومن طريقة وقوفه على المشاهد يدرسون.
إن التغني بالقرآن مأمور به؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن). وروى البخاري أيضا من حديث البراء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: (والتين والزيتون) في العِشاء، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه، أو قراءة.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره، وقد أثنى على صحابته الذين يقرؤون القرآن بصوت حسن، فعندما مرَّ صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وسمعه يقرأ القرآن - وكان ذا صوت حسن - سُرَّ بصوته، وقال له: (لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك البارحة، لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داود ).
وأجمع علماء المسلمين على استحباب التغني بالقرآن إذا لم يخرج القارئ عن أحكام التجويد لحساب النغم من قراءة صحيحة للحروف وإجادة مواضع الوقوف.
والتغني بالقرآن يحتاج إلى تعلم النغم فمن خلاله يستطيع القارئ أن يضبط طبقات صوته فيعلو به وينزل بصورة تجعل القراءة مستأنسة، ولا تكون منفرة للأسماع؛ ومن ثم نجد كل القراء إما أنهم يقرؤون على المقامات بفطرتهم وبأذنهم الموسيقية دون دراسة لها أو دراية بأحكامها، وإما أنهم يمتلكون الموهبة ثم يدعمونها بعد ذلك بالدراسة، وغالبية القراء المشهورين - خاصة في مصر- هم من أصحاب المواهب التي أصقلوها بالدراسة، فمثلا يحكي الشيخ أبو العينين شعيشع أنه علم الملحن رياض السنباطي القرآن وعلمه السنباطي المقامات الموسيقية.
وتبدأ موهبة القارئ عندما يتلذذ بسماع قارئ معين يقوم بعد ذلك بتقليده ثم بعدها إما أن يكون أسيرا لمن قلده، فيأخذ المقامات الموسيقية بصورة تطبيقية قبل أن يعرف من أي المقامات يقرأ، ثم بعدها يدرس المقامات بصورة نظرية وعملية فيزداد بذلك تمكنا، ويختار لنفسه بعدها بين الاستمرار في محبس قارئه المفضل وبين الاستقلال بنفسه وبنغمته، وأغلب المشاهير يشقون لأنفسهم طرائق أخرى فالشيخ محمود علي البنا كان يقلد الشيخ محمد رفعت والشيخ عبد الفتاح الشعشاعي ثم استقل بنفسه وأصبحت له نغمته المستقلة، أما الشيخ فتحي المليجي مثلا فإنه ظل إلى الآن أسيراً في محبس الشيخ مصطفى إسماعيل، ومثله الشيخ محمدي بحيري الذي ما زال متأثرا بالشيخ عبد الباسط أما القارئ الطبيب أحمد نعينع فإنه مزج بين تقليده للشيخ مصطفى إسماعيل وبين إعجابه بالشيخ الفشني وبين شخصيته المستقلة فكان لصوته سحره الخاص.
وعلى كل فلن تجد قارئا مشهوراً – يعلم المقامات الموسيقية أولا يعلمها- إلا وهو يقرأ بها؛ فمثلا الشيخ المنشاوي مشهور بمقام الصبا ذي النغمة الحزينة والشيخ الحصري مشهور بمقام النهوند والشيخ البهتيمي يجمع بين السيكا والصبا، والشيخ السديس والشيخ الشريم والشيخ الحذيفي يُعرفون بمقام الرصد، أما أحمد العجمي والشاطري فيقرآن على مقام الكرد وهو متفرع عن النهاوند وإن كان لكل منهما طريقته التي يتميز بها.ويقرأ طه الفشني على البياتي
ومن الممكن أن يجمع القارئ أو المنشد بين أكثر من مقام، ولكن بشرط أن ينتقل بينها برشاقة دون أن يحدث خلالا بالسلم الموسيقي. ومن أشهر الذين يجمعون في القراءة بين مقامات متعددة وينتقلون خلالها بإبداع الشيخ مصطفى إسماعيل عليه رحمة الله ولنا معه وقفة خاصة في المقال القادم إن شاء الله.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع