أقصد بالنص هنا نص الكلام العربي الذي هو موضوع النظر في اللغة من أجل استنباط القواعد والتحليل والتفسير، لا النص بالفهم العام الذي له أشكال وأنماط كثيرة منها العلميّ (ككتب النحو نفسها) وغير العلمي، ومنها المتن والشرح والحاشية والنص النثريّ والمنظومات وما شابه هذه الأقسام. وتراث النحو العربي مليء بهذا كله، وهو مما يشكل مجالاً واسعاً للنظر وللبحث فيه من جوانب وزوايا نصية فكرية وثقافية مختلفة، كشهرة بعض النصوص ونفوذها وتأثيرها بحسب الزمان أو المكان أو نمط التأليف وما نتج عن ذلك. وبناءً على هذا يتحدد ما أقصده في العنوان السابق المثير لأفكار وأسئلة عديدة في ثلاثة محاور، الأول: موقف النحو العربي من نص اللغة، والثاني : علاقة هذا النحو بما يسمى "نحو النص"، والثالث : جدوى منهج نحو النص ومدى أهميته بالنسبة للنحو العربي.
والغرض من دراسة هذه الجوانب الثلاثة ومن البحث نفسه، تكوين رؤية شاملة لعلاقة هذا النحو بالنص على مستوى الأصول والقواعد والمنهج قديماً وحديثاً. ويأتي ذلك إيماناً بأن هذه الرؤية لها أهميتها في أنها تعد مدخلاً لدراسة هذه القضية التي يمكن أن توسع تفاصيلها وجوانبها بأشكال أخرى فيما بعد، وأنها تعد مراجعة ـ تحاول أن تجمع بين القرب والبعد ـ لأمور كلية قد ينسي تناول جزئياتها منفصلاً بعضها عن بعض عن أهمية النظر فيها مجتمعة لاستنباط نتائجها.
أولاً ـ موقف النحو العربيّ من النص :
نصوص الكلام العربي التي كانت أمام النحاة هي : القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والشعر، والنثر. وقد كان للنحاة العرب ثلاثة مواقف من هذه النصوص : الأول : موقف يتعلق بالتوثيق، والثاني : موقف يتعلق بالاستشهاد والتقعيد، والثالث : موقف يتعلق بالتحليل والتطبيق .
أ ـ موقف التوثيق :
ينصب هذا على توثيق ما سوى القرآن الكريم والحديث؛ لأن المقصود هنا توثيق علماء أصول النحو واللغة لنصوص الشعر والنثر، والضوابط التي وضعها هؤلاء تتعلق بمحاولة توثيق المرويّ من اللغة سنداً ومتناً على غرار ما تم في الحديث، وهي من الناحية النظرية جيدة ومقبولة، لكنها من الناحية العملية كان يحكمها "العصبية والمنافسة"؛ ولذا يبطل مفعول ضبط الرواية ـ كما حاول العلماء أن يقيموها ـ ويصير من اليسير تصفية هذه القضية وعزلها ([1]).
على أن أهم ما في هذه المسألة ما ترتب عليها من وجود شواهد شعرية داخلها الزيف والاضطراب وخالطها الضعف. وتصنف المظاهر العامة لهذه الشواهد فيما يأتي ([2]):
1 ـ الشواهد المجهولة النسبة. 2 ـ الشواهد المتعددة النسبة.
3 ـ الشواهد ذات الوجوه المتعددة. 4 ـ الشواهد المصنوعة.
5 ـ الشوهد المحرفة. 6 ـ الشواهد التي أسيء فهمها.
فالشواهد المجهولة النسبة وُضع لها ضابط هو ـ كما ذكر الأنباري ـ عدم الاستشهاد بما لا يعرف قائله، لكن هذا الضابط جاء متأخراً بعد جهد عظيم كان النحاة قد بذلوه في الشواهد واستنباط القواعد منها. ولذلك استمر الاعتماد على هذا النوع من الشواهد ([3]). والشواهد المتعددة النسبة تمثل نقطة ضعف لاحتمال كونها مصنوعة أو ملفقة وغير موثقة أو محرفة المتن، ولذا فهي في حاجة في وقتنا الحاضر إلى تنقية ومراجعة بعد توافر ظروف التحقيق الكثيرة المعاصرة.
والشواهد ذات الوجوه المتعددة قد تثبت القاعدة وقد تنفيها، وأسباب تعدد وجوهها أحد أمور ثلاثة هي : ورود أكثر من رواية عن الشاعر نفسه، والتغيير من الراوي، والتغيير من النحاة. والتغيير من الراوي والنحاة أدخل في دائرة الاحتمال والظن من غيرهما؛ وذلك لنصرة آرائهم ومذاهبهم القائمة على قواعد وتفريعات ولهجات وغايات مختلفة. من ذلك ما أنشده أبو العباس المبرد في قصر الممدود من الأبيات الآتية : للنمر بن تولب :
يسرّ الفتى طولُ السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعلُ
وليزيد بن الصعق :
فزِعتمْ لتمرين السياط وأنتـمُ يشنّ عليكم بالفنا كل مربـعِ
وللطرمّاح :
وأخرج أمّه لسواس سلمى لمعفور الفدا ضرِم الجنينِ
وقد بين علي بن حمزة الصواب في ذلك بقوله إن بيت النمر روايته : "طول السلامة والغنى"، وأن بيت ابن الصعق روايته "بالقنا"، وأن بيت الطرّماح روايته : "لمعفور الضنى"، ثم قال : " وهذا من فعل أبي العباس غير مستنكر!! لأنه ربما ركب هذا المذهب الذي يخالف فيه أهل العربية واحتاج إلى نصرته، فغيّر له الشعر واحتج به " ([4]) . ومثل هذا قول أفنون التغلبيّ :
أم كيف يَنفع ما تُعطي العَلوقُ به رئمان أنفٍ إذا ما ضُنَّ باللبـنِ
فقد" أنشده الكسائي في مجلس الرشيد بحضرة الأصمعي؛ فرفع "رئمان" فأنكر عليه الأصمعي ذلك وقال : إنه بالنصب، فقال له الكسائي : اسكت، ما أنت وهذا؟ يجوز الرفع والنصب والجر، فسكت، هذا مع أن حق المعنى والإعراب (فضلاً عن الرواية) النصب ـ كما بين ابن الشجري ـ لأن "رئمان" مفعول "تعطي" ([5]).
ومما ورد فيه هذا أيضاً قول طفيل الغنوي :
لأيّامها قِـيدت وأيامـها جَرَتْ لغُنْمٍ ولم تؤخذْ بأرضٍ وتُغصبِ
فقد جوّز بعض القدماء في "أيامها" الثانية الأوجه الثلاثة الرفع والنصب والجر. وكذلك قول كعب بن زهير :
ضخـمٌ مُقـلّّدُها عَبْـلٌ مُقيّـدُها في خَلْقها عن بنات الفحلِ تفضيلُ
ذكر ابن هشام أنه يجوز في " ضخم " الرفع والنصب والجر، والرفع على أربعة أوجه، والنصب بإضمار أمدح أو على أنه حال، والجر على أنه صفة لنضاخة (قبل ذلك ببيتين) على لفظها أو لعذافرة (قبل ذلك بثلاثة أبيات) على المعنى ([6]).
ومثل هذا عند المحدثين ما ورد في قول المرار بن منقذ ([7]):
ثـم تنهـدّ على أنمــاطها مثـلَ ما مالَ كثيـبٌ منقعرْ
عَبَـق العنبرُِ والمسـك بها فهيَ صفراء كعرجون العمرْ
فقد أجاز محققا المفضليّات جعل (عبق) اسماً مبتدأً وجر (العنبر) على أنه مضاف إليه، وعلى هذا يكون الخبر "بها"، وأجازا أيضاً جعل (عبق) فعلاً ماضياً والفاعل هو (العنبر) .
ومثل هذا التعدد المبنيّ على ما يجوز في الموضع الواحد في الشعر لا يمكن أن يكون قد صدر عن الشاعر؛ لأنه يمثل مفارقة للتاريخ الصحيح بالضرورة . ولقائل أن يقول إن هذا التعدد أمر مقبول لاعتبارات من أهمها : إثراء تعدد أوجه القراءة الشعرية المفتوحة، وظروف عدم التحقق من الرواية وفقد الدليل على الوجه التاريخي المحدد الصحيح، وصيرورة الشعر بعد رحيل قائليه ملكاً للثقافة العربية ومعطياتها اللغوية الائتلافية تقرؤه على النحو الذي تسمح به القواعد. وهذا القول صحيح إذا أعيا التحقيق التاريخي المستمد من منهج لغوي يجب الأخذ به، وهو منهج يفترض أن يقوم على أدلة مختلفة أهمها الاحتكام إلى الخصائص اللهجية للشاعر وطلب الاتساق في شعره، وضرورة الاطراد في شعر القبيلة، وتحري الصواب النحوي، ونفي التعدد في موضع مقتضاه التوحد ([8]).
والشواهد المصنوعة تكمن أدلة صناعتها في: النص على نسبة الصنعة لبعض النحاة، والطعن الصريح في بعض الشواهد ووسمها بالصنعة، كطعن المازني في شاهد تأنيث "السكّين" الذي أنشده الفراء :
فعيث في السَّنام غداةَ قرٍّ بسكيـنٍ موثّقة النصابِ
وكذلك نسبة بعض الشواهد إلى شعراء لم يوجدوا أصلاً أو شك في وجودهم، كالذي ينسب إلى مجنون بني عامر :
بكيتُ على سرب القطا إذ مررنَ بي فقلت ومثــلي بالبـكاء جديــرُ
أسربَ القطا هل من يعيـرُ جناحَه لعلّي إلى من قـد هويـتُ أطيـرُ
وظهور أمارات الصنعة في الرصف اللغوي لبعض الشواهد، كالأبيات التي يستشهد بها النحاة على لغة من يلزم المثنى الألف وفتح النون مثل :
أعرف منها الجيد والعينانا ومنخرين أشبـها ظبيـانا
والشواهد المحرفة لا يستبعد الباحث أن يكون بعض تحريفها من تعمد النحاة أنفسهم، ومما يدل على هذا اختلاف روايتها في كتب النحو عما هي عليه في مصادرها الأصلية، ومن أوضح الأمثلة على ذلك الاستشهاد على أن "أنْ" تجزم المضارع بقول امرئ القيس :
إذا ما ركبنا قـال ولدانُ أهلـنا تعالوا إلى أنْ يأتنا الصيدُ نَحطبِ
والرواية في الديوان (إلى أن يأتيَ الصيدُ نحطبِ) ، وكذلك الاستشهاد على الجزم بلن بقول كثير عزة :
أيادي سبا يا عزّ ما كنت بعدكمْ فلن يحلُ للعينيـن بعدك منظرُ
والرواية في الديوان المطبوع هكذا (فلم يحل للعينين) . ويعدّ تحريف الشواهد أكثر جوانب هذه القضية خطراً؛ لما ترتب عليها من تفريعات وآراء وجزئيات أسهمت في تضخيم قواعد النحو العربي وتعقيدها وحشوها بغير الصحيح وما لا فائدة فيه .
والشواهد التي أسيء فهمها نتجت عن عزل الشواهد من سياقها فكان لهذا أثر في القول بالتأويل بصوره المختلفة، ومن هذا توجيه الأشموني جر الملحق بجمع المذكر السالم بالكسرة في بعض ما ورد من الشعر بأنه لغة خاصة مع أنه في الحقيقة للضرورة الشعرية ([9])، وكذلك القول بأن ما ورد في الحديث " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " يعد مما جاء على لغة "أكلوني البراغيث" مع أن للحديث رواية أخرى مشهورة هي " إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" ([10]).
وقد كان الدافع الذي سمح للنحاة بأن يُدخلوا هذه الشواهد الضعيفة بأنواعها ومظاهرها المختلفة مجال النحو هو " مراعاة القواعد لا النصوص، فقد وجهوا جهدهم أساساً في الدراسة لخدمة القواعد فانزلق بهم ذلك إلى استخدام نصوص ما كان لها أن تستخدم أو على الأقل : كان ينبغي لها أن تُحقّق وتنخل قبل أن تستخدم " ([11]).
وهناك موقف النحو من الاستشهاد ومن قضايا أخرى سنعرض لها في المقالات القادمة إن شاء الله.
[1]) ) ـ انظر : الرواية والاستشهاد باللغة ، للدكتور محمد عيد 97 . ومن أوضح الأمثلة العملية على هذه القضية أن دراسة الشاهد الشعري عند أبي البركات الأنباري في كتابه "الإنصاف في مسائل الخلاف" ـ وهو من أهم مصادر النحو العربي ـ تثبت هذه الفجوة بين التنظير والتطبيق؛ إذ إنه نظرياً وضع ضوابط كثيرة لضبط المتن والسند، لكنه عملياً خالفها بدافع العصبية، ومن ذلك أنه رد أحد عشر شاهداً للكوفيين بسبب جهل القائل، ولم يلجأ إلى هذه العلة في توثيق شواهد البصريين كلها، كما أنه اتخذ الروايات المختلفة للشاهد أسلوباً من أساليب تسويغ الحكم لا من أساليب الوصول إليه . انظر : رؤى لسانية في نظرية النحو العربي، للدكتور حسن الملخ 196،207.
[2]) ) ـ انظر : الرواية والاستشهاد باللغة 195 ـ 217 .
[3]) ) ـ انظر : أمثلة متعددة لهذا النوع من الشواهد في "في فيض نشر الانشراح" لابن الطيب الفاسي، تحقيق د. محمود فجال 1/621 ـ 627 .
[4]) ) ـ انظر : التنبيهات على أغاليط الرواة ، نقلاً عن الرواية والاستشهاد باللغة ، للدكتور محمد عيد 206 .
[5]) ) ـ انظر : مغني اللبيب لابن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد 1/45،46 .
[6]) ) ـ يقصد بذلك قوله : من كلّ نضّاخة الذِّفرى إذا عرِقت عُرضتها طامسُ الأعلامِ مجهولُ
وقوله : ولن يبلّغـها إلا عذافـرةٌ لهـا على الأيـْـن إرقالٌ وتبغيـلُ
انظر : شرح قصيدة بانت سعاد لابن هشام، ضبطه وفهرسه الدكتور محمد مفتاح 120 ـ 134 .
[7]) ) ـ المفضليات : 92، نقلاً عن الصورة والصيرورة، بصائر في أحوال الظاهرة النحوية ، للدكتور نهاد الموسى 103، 104 .
[8]) ) ـ انظر : الصورة والصيرورة للدكتور نهاد الموسى 115 .
[9]) ) ـ انظر : شرح الأشموني (في حاشية الصبان) 1/89 ، وشرح الرضي على الكافية ، تصحيح وتعليق يوسف حسن عمر 3/382 ـ 384 ، وشرح المفصل لابن يعيش 5/11،12.
[10]) ) ـ انظر : الاقتراح للسيوطي، تحقيق الدكتور أحمد قاسم 55 ، وفتح الباري لابن حجر: باب فضل صلاة العصر.
[11]) ) ـ الرواية والاستشهاد باللغة ، للدكتور محمد عيد : 217 .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع