قرأت في العدد السابق لأدباء الشام شعراً وما أعذبه من شعر لشاعر رقيق القلب والحال على ما يبدو .. هذا الشاعر هو المقنع الثوري الذي أتحفنا ببعض أشعاره الرقيقة .. وعلى الرغم من قلة شغفي بالشعر وقلة ميولي نحوه إلا أن شاعرنا قد ساقني سوقاً إلى قراءة شعره السهل البسيط ذي المعنى الكبير العظيم خاصة أنه يمس بمعانيه حال الشعب العربي الكادح المقهور ..
وكم أعجبتني وآلمتني وأسالت دموعي ، قصيدته (بيت الشاعر) التي يحكي فيها عن مأساة بيته المضعضع الذي غدا عرضة للانهيار والوقوع لحاجته الملحة إلى الصيانة ، ولكن هيهات هيهات فما من مصلح وما من مال يدفع وما من أدوات تصليح أصلاً في بلد يحكمها الفساد من رأسها إلى أصغر نقطة فيها .. وكم لمس ببيتيه هذين شغاف قلبي ومس واقعنا العربي المتدهور :
واختال بالترف الرخيص مدجنٌ                    ومهجنٌ ، ومفتقٌ ومرقع
وأنا هنا في شبه بيتٍ ، ربما                      جثمانه قبل الضحى سيشيع
فنحن نمشي في الطرقات وتدهشنا البيوت والفلل والقصور العامرة وكل واحد في صدره غصة وسؤال : من أين لكم هذا ؟ ومن الذي قدر على شراء هذا ؟
وأخيراً أعجبني بيته الأخير في القصيدة يجيبنا فيه عن أسئلتنا السابقة بقوله :
يا رب رزقك في البلاد موفرٌ                     لكنه بين الضباع يوزع
ثم أنتقل من تلك القصيدة الرائعة الواقعية إلى قصيدة أخرى لا تقل روعة وجمالاً في المعنى واللغة عن أختها وهي قصيدة (الديك وآخر النفق) حيث يتحدث عن الرجل العربي الذي رضع الطغيان والتكبر من أمه وأبيه ومن حوله فأنت رجل أنت رجل حتى غدا يدوس على كل من حوله من البشر وخاصة وأولاً وأخيراً تلك الزوجة المنكسرة التي رأت كغيرها من بنات جنسها أن في الزواج الستر والأمن والاستقرار والمودة والمحبة والحماية ومع الأسف فوجئت كغيرها كثير بأن الزواج تلك المؤسسة العظيمة يحكمها مع الأسف جبار أخذ تلك الزوجة ليمارس عليها كل ألوان العقد النفسية التي عنده .. هذا ما عبر عنه الثوري بقوله:
إن شاء جوّعها ، إن شاء ركّعها ، إن شاء ضاجعها جهراً على الطرق
ويختم الشاعر القصيدة بحال الزوجة التي هي دجاجة في القصيدة بأنها دخلت في نفق العصيان وأنها سوف تنقر ديكها في النهاية وهذا مع الأسف غالباً ما نجده في بيوت كثير من الأزواج خاصة ممن يقل عندهم الدين والالتزام بشرع الله حيث تجد الزوجة بعد أن تبلغ مبلغاً من العمر تجدها تبدأ بالتمرد والحنق وصبّ اللعنات على الزوج المريض الذي لم يعد له حول ولا قوة بعد أن أشبعها إهانات وإهانات في أول العمر .
أما القصيدة الثالثة التي لفتت نظري كذلك فهي (الريح والهدف) فقد تحدث الشاعر بقوة وعنفوان حتى أحسست بالكلمات تهز الأسطر هزاً ، ومن زمن لم نسمع بشعر يدوس على الطغاة خاصة وأن الشاعر على ما يبدو مدرس وقد حرم الطغاة تلميذاته من الحجاب ، ولأنه مدافع عن الحق اضطهدوه واعتقلوه ثم حرموه من التدريس حتى لا يسقي الطلاب والطالبات لبن العز والشرف والكرامة والدين .. فأراه شامخاً صارخاً في هذين البيتين :
ما كنت نذلاً وشعري لم يكن ترفاً                  حتى أغني طغاة العصر والترفا
وليس شعري مكياجاً يجمّلهم               وليس عوداً على أوتارهم عزفا
فهو ليس من زمرة المطبلين الراقصين لنظام الحكم كائناً ما كان ، بل هو كالسنديان تعرف الريح أنه لا ينحني بل هو يشرب البحر ويمشي على الجمر ويعيش في برد الثلج بل وأكثر فهو من يطحن الصخر بأسنانه طحناً .. ولا يبالي بأولئك الأوغاد ..
ثم ننتقل إلى قصيدة أخرى (الصبح القريب) وهي قصيدة تتحدث عن الغربة وعن آلامها التي لايعرف معناها إلا من جربها وتجرع مراراتها فالغربة لها طعم المرار الذي يجعل الغريب يتقيأ العالم من حوله .. فالسهر والهم والتعب كلها إفرازات مرارة الغربة والبعاد .. وكم أعجبني الأمل الذي أبرزه في القصيدة وعبر عنه بطريقة فنان مبدع حين قال :
إن شاء ربك أن يفرجها                    فالبحر ـ حين يشاء ـ ينفلق
حيث أعطانا بل أعادنا إلى رب العالمين القادر على تيسير كل عسير ..
أما مسك الختام (بالنسبة لما قرأت من شعره) فهي قصيدته الرائعة على الرغم من قصرها إلا أنها مؤثرة ومحزنة ومشرقة في آن واحد .. فشاعرنا يعبر عن الواقع المرير ثم يرمي شعاع الأمل لماعاً ينثر ضياءه هنا وهناك .. تلك القصيدة هي (باقون نحن) حيث شممت فيها أريج المحب الصديق الصدوق الذي قرع باب بيت صاحبه لكنه فوجئ ... بماذا ؟ تعال نقرأ معاً :
وطرقت بابك ، كان بابك موصداً                  لا الصوت جاء مرحباً بي لا الصدى
ثم يقول في بيت آخر :
واليوم جئت فلم أجد لي مؤنساً             أتطيب لي الشهباء بعدك موردا ؟
ألا تلاحظ معي تلك النبرة الحزينة في كلمات تدل على عمق الجرح والحزن فهو لم ينزل إلى حلب الشهباء إلا ليقابل ذلك الوجه البشوش الحنون الكريم الودود .. فلم يجد في مدينة حلب كلها مكاناً له لأنه ما وجد وجه صديقه الغالي .. ترى أين ذلك الصديق ؟ اقرأ معي :
خبر اعتقالك يا حبيبي صعقة                      تركت فؤادي كالهواء مبددا
إذن ذلك الصديق في غياهب السجون ولماذا يا ترى يوضع من يقتبس من عبق النبوة في السجون ؟ أوضح الشاعر السبب بقوله :
ماذا جنيت سوى انحيازك للهدى ؟                 حين اتبعت مع الهداة محمدا ؟
إذن عيبه اتباع الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام .. ونرى الأمل مجدداً :
حييت عبد الله تجبه بغيهم                                 بالفكر وضاحاً نبيلاً سيدا
فعبد الله رغم سجنه لن ينحني لا هو ولا أمثاله من الأحرار الذين اتخذوه قدوة وساروا على طريقه في الحق والهدى .. ويختم قصيدته الرائعة بقوله :
فليرتقب ابن النطيحة زحفنا                باقون نحن وإن موعدنا غدا
فهذا الأمل الذي يشع في فؤاد الشاعر المؤمن ، وهو الأمل الذي زرعه الله في قلوب المؤمنين .. فتحية طيبة مباركة من الله لشاعرنا ولصديقه عبدالله الحر الصامد الأبي ..
شكراً ألف شكر لشاعرنا المبدع ولشعره الراقي ونحن بانتظار ما يتحفنا به دائماً من شعر ثوري .. باقون نحن بانتظاره ..

المراجع

odabasham.net

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع