إيماءات الرأس في القرآن كثيرة، وقد اخترت منها ما يأتي:
أ ـ طأطأة الرأس: يطأطئ الإنسان رأسه خضوعا وتذللا، أو ولاء وطاعة، أو تقديرا واحتراما، أو تفكرا وتدبرا، أو حياء وخجلا، أو شعورا بالذنب والندم، أو تعبا وشقاء، أو حيرة وارتباكا، أو ذلا وانكسارا، أو انخزالا وانبهاتا، أو رهبة وخوفا.
ولقد نقل القرآن إلينا مشاهد عديدة لطأطأة الرأس، إلا أنها ذات دلالات مختلفة ومتنوعة، منها:
1 ـ دلالة الخجل والانكسار: وتتجلى فيما حدث لقوم إبراهيم عليه السلام حين كسر إبراهيم جميع أصناهم، وعلق الفأس في رقبة كبيرهم، فلما سألوه عن الفاعل، "قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنْطِقُونَ" [الأنبياء:63]، حين ذلك أطرقوا برؤوسهم؛ لأنهم أحسوا بأنهم على خطأ، وأنه على صواب، وأن هذه الأصنام التي لا تدافع عن نفسها ليست جديرة بأن تعبد من دون الله، قال تعالى: "ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطشقُونَ" [الأنبياء: 65]. قال الزمخشري[1]: "نكسته: قلبته، فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس: انقلب، أي: استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم، وجاءوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة، أو قُلِبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا مما بهتهم به إبراهيم".
2 ـ دلالة التكريم والتعظيم: لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم أمر الملائكة بالسجود له شكرا وطاعة؛ فامتثلوا أمر ربهم وسجدوا؛ والسجود لا يكون إلا بطأطأة الرأس وخفضه، قال تعالى: " وإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" [البقرة: 34]. قال كثير من المفسرين: سجود الملائكة لآدم تشريف وتكريم وتعظيم... وأما الخضوع والقنوت بالقلوب فلله وحده[2].
3 ـ دلالة الشكر والتوقير: الشكر لله المنعم، والتوقير ليوسف عليه السلام، النبي والوزير، قال تعالى: "وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا" [يوسف: 100]، وقال الشعراوي[3]: "وهم حين سجدوا ليوسف؛ هل فعلوا ذلك بدون علم الله؟ طبعا لا".
إذن سجود الملائكة لآدم، وسجود آل يعقوب ليوسف هو شكر لله، وبعلم الله. وقال الزمخشري[4]: "كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة، كالقيام، والمصافحة، وتقبيل اليد، ونحوها مما جرت به عادة الناس؛ من أفعال شهرت للتعظيم والتوقير". وقال آلن بيز[5]: "تاريخيا استخدم خفض علو جسد الشخص أمام شخص آخر كوسيلة لإظهار العلاقات التابعة". 
4 ـ دلالة الإعراض والصدود: عندما يرفض الإنسان موقفا أو حكما أو توجيها أو إرشادا فإنه يلوي رأسه إعراضا وصدودا واستكبارا واستهزاء، قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا۟ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْا۟ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ" [المنافقون: 5]. ففي التفسير الميسر[6] : "وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: أقبلوا تائبين معتذرين عمَّا بدر منكم من سيِّئ القول وسفه الحديث، يستغفر لكم رسول الله ويسأل الله لكم المغفرة والعفو عن ذنوبكم، أمالوا رؤوسهم وحركوها استهزاءً واستكبارًا، وأبصرتهم –أيها الرسول- يعرضون عنك، وهم مستكبرون عن الامتثال لما طُلِب منهم".
5 – دلالة الذل والهوان : في القرآن آيات كثيرة تعبر عن الذل والهوان الذي يحصل للإنسان يوم القيامة نذكر منها ما يأتي:
ـ قال تعالى : "وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا۟ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ" [السجدة: 12]. نقلت هذه الآية صورة أخرى حية ومعبرة عن الإنسان المجرم في حق نفسه؛ لأنه لم يختر لها طريق الإيمان، وتركها تتردى في حمأة الكفر والضلال، حتى إذا لقي ربه شعر بالخزي والندم، واعترف بالخطأ، وطأطأ رأسه ذلا وانكسارا، قال صاحب الظلال[7]: "إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة ، والإقرار بالحق الذي جحدوه ، وإعلان اليقين بما شكوا فيه ، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى . . وهم ناكسو رؤوسهم خجلا وخزيا . . (عند ربهم). . الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا . . ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان".
6 ـ التعجب: قال تعالى: "فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ ٱلَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَرِيبا " [الإسراء: 51]. تنقل هذه الآية مشهدا من مشاهد تعجب الكفار الذين كانوا يهزون رؤوسهم ويحركونها تعجبا[8] حينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله القادر على البدء قادر على الإعادة.
ب ـ رفع الرأس :
ـ قال تعالى : "مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْـِٔدَتُهُمْ هَوَآءٌ"   [إبراهيم: 43]. نقلت هذه الآية صورة معبرة للإنسان الظالم يوم القيامة وقد أقبل مسرعا خائفا، ومد عنقه وصوب رأسه، وأقبل على الشيء ببصره فلم يرفعه عنه، وأخذ ينظر إليه في ذل وخشوع، قال صاحب التفسير الميسر[9]: "يوم يقوم الظالمون من قبورهم مسرعين لإجابة الداعي رافعي رؤوسهم لا يبصرون شيئًا لهول الموقف، وقلوبهم خالية ليس فيها شيء؛ لكثرة الخوف والوجل من هول ما ترى" .
ـ قال تعالى : " مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ " [القمر :8 ]، نقلت هذه الآية مشهدا حيا متحركا يوحي بالذل والخوف؛ إنه مشهد الإنسان الخارج من القبر، والملبي لنداء ربه والمنطلق إليه في صمت وتذلل وخوف ، قال السعدي[10]: "مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ"، أي: مسرعين لإجابة النداء الداعي. وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم بالحضور لموقف القيامة، فيلبون دعوته، ويسرعون إلى إجابته "، وقال سيد قطب[11] : " وهذه الجموع خاشعة أبصارها من الذل والهول ، وهي تسرع في سيرها نحو الداعي ، الذي يدعوها لأمر غريب نكير شديد لا تعرفه ولا تطمئن إليه .. وفي أثناء هذا التجمع والخشوع والإسراع يقول الكافرون : «هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» .. وهي قولة المكروب المجهود ، الذي يخرج ليواجه الأمر الصعيب الرعيب! " .
                 
[1] الكشاف:3/125 .
[2] تفسير الرازي: 2/230-231، وتفسير ابن كثير: 1/78-79، وباهر البرهان للغزنوي: 1/64.
[3] تفسير الشعراوي : 12/4 .
[4] الكشاف: 2/506.
[5] لغة الجسد. تأليف: آلن بيز. تعريب: سمير شيخاني. الدار العربية للعلوم. ط1. 1417هـ ـ 1997م : ص 120.
[6] التفسير الميسر. إعداد نخبة من العلماء. بإشراف : صالح بن عبد العزيز آل الشيخ. ط2 . 1430 هـ ـ 2009 م : ص 555.
[7] في ظلال القرآن : 5/2811 .
[8] تفسير الجلالين لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي. دار ابن كثير. المملكة العربية السعودية: ص 287 .
[9] التفسير الميسر : ص 261.
[10] تفسير السعدي  : 1/825 .
[11] في ظلال القرآن: 1/3429 .

المراجع

moslimonline.com

التصانيف

مصطلحات دينية  أدب  مجتمع