خلال زيارتي للقاهرة منذ وقت قريب، لاأدري هل هي المصادفة وحدها أم إن أمراً مقدرا أوقع بين يدي مجموعات شعرية في كتاب واحد لشاعرفلسطيني كبير اسمه كما ورد على غلاف أعماله الشعرية، محمد الأسعد*. وأقول الكبير، لأنني حقيقة فوجئت بهذا الشاعر على غير توقع. ولأننا أعتدنا أن نبحث عن الأسماء التي تتكرر كثيرا وتلتمع في المهرجانات وعلى أقلام الكتاب، واعتدنا أن نقرأها بفكرة مسبقة ترافقها أو اسطورة شائعة ما، فقد بدا لي للوهلة الأولى أن ما بين يدي مجرد إضافة كمية لما هو متوفر في الأسواق. ولكن.. سرعان ما تبدد كل هذا ووجدت نفسي أمام عالم شعري لاأبالغ إذا قلتُ أنه قل نظيره في مسار الشعر الفلسطيني، الشعر الذي استولت على مساحته أسماء معينة بينما ظلت أسماء في الظل تنتظر نفوسا بريئة تقرأها من دون أحكام وتصنيفات مسبقة.
نحن نعرف بعض الأسباب بالطبع وليس كلها، الأسباب التي تبرز هذا وتطمس اسم ذاك، وبخاصة في الساحة الفلسطينية ، وأبرزها أن بعضهم يجيد تسويق نفسه، ويجد من يسوّقه، حين يجد له من يتبناه في منظمة أو حزب أو رئيس يرعاه، وبعضهم ينشغل عن أدوات التسويق، ويخلص لمهمته كشاعر ذي ضمير خاص.
للشاعر محمد الأسعد عوالمه الغنية المدهشة فنيا، بحساب فن الشعر، إلا أنه كما يبدو لي لم يضع في ذهنه حسن التسويق و"تسلق ظهرالمقاومة الفلسطينية" كما قال عنه د. أحمد أبو مطر من مكانه في النروج، أو لم يستخدم آلية العلاقات العامة لجعل نفسه على رأس قائمة الأسماء المكرورة.
بعد أن فوجئت بهذا الشاعر، بدأت أبحث في شبكة الانترنت عنه، أو عن شيء قيل فيه وعنه، فوجدت عددا من اللقاءات والمقالات، إلا أن مالفت نظري اللقب الذي أطلقه عليه الناقد مهتدى مصطفى غالب من سوريا، فسماه "شاعر الهجرة إلى الروح". لماذا الروح بالذات؟ لأنك، وهذا ظني، تجد نفسك أمام عالم شعري شفاف اجتهد شاعره في تخليصه من ثقل المرئيات واليوميات، وحولّه إلى عالم مدهش في صفائه. ولكن بعيدا عن الصور العابثة المفتعلة التي تشعر أن أصحابها جاؤا بها فقط لإثارة الإعجاب بمهاراتهم في تلقط الغرابة. صور الأسعد الشفافة هي من هذا العالم، ومثقلة بتعددية المعنى والتأويل إلى درجة أنها تقول ولاتقول في الوقت نفسه. تشعر أنها تحلق فوق المرئيات إلا أنها لاتقع أسيرة لها، بل تأخذها لتكون أجمل في تكوينات دلالية جديدة.
ولعلني لا آتي بجديد حين أقول ان مقدرة الشاعر، أي شاعر، لاتتجلى قدر ما تتجلى، إلا في تشكيل تجربته ذاتها، أي تقديمها لاالتعليق عليها ولا شرحها في قصيدته. وهذا مبدأ شعري نجد القلة تحافظ عليه. يضاف إلى هذا، أن سعة الرؤية وشمولية الإحساس بالأشياء، بحيث يتجاوز الآني والعابر إلى ماهو أبدي ودائم في المشاعر الإنسانية، اعتبرهما علامتان من علائم الشاعر الكبير.
لدى الأسعد غنى في المشاهد، حيث نجده يقرأ مشاهد متنوعة وكأنه مسافر عبر الأمكنة والأزمنة، تتشكل صوره من مواد مختلفة وهويات متنوعة، مما يدل على رحلات واسعة بين الأماكن والثقافات، رغم أن هذا لايقال مباشرة، ويدل على خصوصية لغوية لانعرفها عند الكثير من الشعراء الذي ينطقون عن معجم واحد ويدورون في أسر مشهد واحد. إنه شاعر من أجمل الشعراء الذي قرأت لهم أو عنهم، في سعة الأفق وشفافية العبارة ورصانة رفيعة المستوى، وهي صفات تعتقد د. سلمى الجيوسي أنها تجتمع في شعر الأسعد، وهي كما تقول، في كلمتها على غلاف الكتاب، دلائل على الكيفية التي يعمل بها الفن بغريزة إبداعية لدى أفراد قليلين.
ولأن من الصعب تناول مجموعات شعرية بهذا الغنى المكاني والزماني في مقال قصير، فسأكتفي بتقديم لمحات عن هذا الجزء من أعمال الشاعر الذي يضم ثماني مجموعات تقع مابين العامين 1982 والعام 2005 :
لمحة أولى:
تتصدرالأعمال الشعرية مجموعات ثلاث مكتوبة وفق نمط قصيدة الهايكو اليابانية القصيرة الموحية. وأول ما يتجلى أمام القاريء هنا هو أن عليه أن يخرج من عادة التلقي المعتادة للقصائد المحتشدة بالإسهاب والتطويل، والشرح والقص، ويدخل في عالم شعري عماده التشكيل الصوري في ثلاثة أو أربعة سطور. ولكن هذا التشكيل ليس التقاطا لصورفوتوغرافية بل هو رسم لوحات تشعر أحيانا أنها مرسومة بألوان زيتية تقيلة، وأحيانا بألوان مائية، واحيانا بمجرد خطوط بسيطة بلا تلوين. وفي كل هذا أو وراءه تكمن عاطفة لاتقال مباشرة بل بشكل غير مباشر. ولا يمكن للقاريء لهذا النسق الشعري القول ماذا يريد الشاعر أن يقول هنا، بل يمكنه فقط الإحساس بما تثيره في نفسه هذه الصورة، تماما كما يشعر أمام لوحة فنية:
في هذه الأغنية وحدها
يتفتح الياسمين
أكثر من مرة!
أو:
لاأسماء لها
ولكنها تتفتح واحدة
بعد أخرى
هذه الأزهار البيضاءْ
أو:
ذلك الصامت بمحاجره البيضاء
تجلببه الفراشاتُ
تمرُّ به الريح
الطبيعة هنا، أو عناصرها بشكل أكثر تحديداً، تؤدي دورا مهما في حمل هذه المشاعر، ولكنها ليست الطبيعة الوصفية، بل الطبيعة كما تبرز خلال خبرة إنسان ومشاعره. وهكذا تكتسب الأزهار والبط البري والطرقات الموحلة والأمطار التي تتساقط على رمال الصحراء ويكتسب مشهد الثلج والفراشات التي تجلبب تماثيل العشاق.. إلخ حيوية غير عادية تكسبها معان فلسفية وصوفية أبعد من مجرد كونها عناصر طبيعية.
لمحة ثانية:
في المجموعة الرابعة المسماة "حدائق العاشق" يأخذنا الشاعر إلى أماكن اختبرها حسيا، إلى درجة يشعر معها القاريء أنه يلمس تلك الأماكن ويعيش في أجوائها العابقة، سواء كانت أماكن مألوفة مثل المدن العربية القديمة أو المدن الأوروبية أو المدن الأسطورية التي نتعرف عليها في كتب الأساطير. وفي كل هذا يتلامح وجه عاشق جوال باحث عن نفسه أو عن أجداده أو نسائه اللواتي مررن بشواطئه. ويتزامن كل هذا على صعيد الحاضر والوجود، لافرق بين مدينة متخيلة ومدينة واقعية. فكلها مما يختبره الإنسان في واقعه وأحلامه، في نهاره وليله، بلا تمييز. وتكاد تكون هذه الجولات أشبه بقصص قصيرة لابداية ولا نهاية لها. وكأن كل شيء يجري في حلم أبدي دائم، تتخذ فيه الأفعال صيغ الأفعال الحاضرة دائما، كطريقة فنية لتأكيد رؤيا ربما هي رؤيا الإنسان الباحث عن خلوده.
ويذكرني هذا برحلة بطل الملحمة السومرية،جلجامش، الباحث عن الخلود والمعنونة بهذا العنوان الدال:" هو الذي رأى كل شيء":
- لاتقولي شيئاً، كنتُ كاهنكِ الوحيد،
وها أنا أعيدكِ إلى متاهتي، ها أنتِ
تنبعثين بين الخرائب، حيث تنبعث
الأميراتُ والأعشابُ وتتنهد الريح
- خيالي ٌّ.. خياليٌّ دائماً.. دع هذه
الغجرية تقرأ طالعنا
- على شواطيء مهجورة تتساقط أزهارٌ
كثيرة، عاشق متوحدٌ في سفينة
أشباح، عرّافاتٌ يمحين اسمه عن
صخرة، فتضيع روحه ولا تهتدي،
أنتِ، أنتِ أميرة منفيةٌ في معبد
"دودونا" أو طرقات "بومبي" أو
"هركلينوم" المطمورة على ساحل
البحر.
لمحة ثالثة:
كل هذا الندى، هو عنوان المجموعة الخامسة. وتضم قصائد ذات طابع موزع على عدد كبير من التجارب، أبرزها الحب الذي يتخذ شكلا صوفيا، بحيث تتحول فيه النساء المعشوقات إلى كائنات شبه أسطورية، أو إلى حوريات ينتظرن في آخر الزمان. وهناك في هذه المجموعة تجربة الفقدان الذي لايخفف من ألمه إلا تحويله إلى نشيد، وإلى مراثي عجيبة، كما يظهر في هذه المرثية التي يبدو أن الشاعر يرثي فيها أخا صغيراً له:
أيها الطفل الذي ما لاعبته الريح
ما مسّ له الموج يداً
أين تهيم الآن
في أي الصحارى
وسّدوكَ الرملَ
واغتالوا بكائي؟
الشاعر هنا يصل أقصى حدود الشفافية في منع الموت من التغلب على الحياة. وفي قصيدة أخرى يحول وحدة الانسان إلى رمزية شفافة بالغة الرقة:
اسمها الوردة
لون وحيد
في عراء الكون
يبكي
لمحة رابعة:
نصل الآن إلى ماسماها الشاعر" القصائد اليونانية"، وكلها كما يبدو مكتوبة تحت ظلال آثار الحضارة اليونانية، وفي وسط ضجيج اليونان المعاصرة. ويبدو هذا واضحا من التقاط المفارقات بين ماضي أثينا وحاضرها، بين عظمة أثارها وآلهتها وأنواع السواح المعاصرين الذين يتجولون بين أنقاضها. ويبدو موقف الشاعر من هذه الحضارة، أو أي حضارة أخرى، موقف العين اللازمنية التي تشاهد البداية والنهاية في وقت واحد معا:
هذه الأعمدة
والطرقات
والآلهة
ماظل منها في صورة بشرية
وما اندثر
وعاد إلى أصله الحجري
من أجل أن تتلاشى الحياة
مستسلمة
للفناء
يا للمهمة المضحكة!
أمام هذه الرؤية التي تتخطى الزمن ومشاغله وانهماكاته، لاتكون إلا السخرية من جهد الإنسان العابث وحروبه وزهوه، وتتجلى السخرية في هذه السطور على أفضل ما يكون حين يرسم الشاعر هذه الصورة الكاريكاتورية مثيرا المفارقة بين ماض وحاضر:
وحيث كانت تقف أثينا
بخصرها العميق
مطلّة على مدينتها
أقعت في فستان ساحل
وشعر مهمل
امرأة بدينة
بحجم خرتيت أصابه البهاق
وينتقل الشاعر من هذه المفارقات، أو يعود إلى تجارب حية ومعاصرة، تجارب اللقاء في مدن الحاضر بين العاشقين الأبديين، وهي الفكرة التي تبدو مهيمنة أكثر من غيرها على مجموعاته الشعرية. فكما كان اللقاء في الماضي بكل مايحيط به من ظلال شبه اسطورية في مدن مندثرة وأماكن طواها النسيان، هاهو يحدث مرة أخرى في مدن الحاضر، في قاعة المتحف أو بين أطلال مدينة أثرية، أو المحطات، ويتباعد العاشقان إلى زمن يتجاوز الأزمان:
هل يكون أن أراك
مرة في قاعة المتحف
أوبين أطلال مدينة أثرية؟
هل يكون أن أراك
بين العابرين
أو أمام دكان يبيع الوجبات السريعة؟
هل يكون أن أراك في المطار
أو محطة القطار الذاهب شمالا؟
هل يكون أن نقف مرة أخرى
متضاحكين
كأنما لاشيء يحدث
بينما يتباعد بعضنا عن بعض
حتى آخر الأبدية؟
لمحة خامسة:
تحت عنوان "أسماء ذهبية" ، وهي المجموعة السابعة، يسود طابع تجربة التاريخ العربي وأحداثه، حيث يحول الشاعر أحداثا مثل عثور العلماء الغربيين على تماثيل أسلاف الشاعر إلى تجربة حية ملموسة. فهؤلاء أجداد غامضون يخرجون صامتين تحت أنظار أحفادهم من الصخر والطين والغبار تحت رنين المعاول وحفيف أوراق الصنوبر والمطر المشرقي الخفيف، لتأخذهم التيارات البحرية والشموس إلى عتمة القاعات الزجاجية وفضول العلماء الغربيين. آنذاك لم تكن القصيدة قد ولدت بعد، فكم خريف سيمضي حتى يستيقظ الأسلاف؟ وكم شاعر سينضج للموت بما يكفي لاسترداد شهوة النشيد وتاريخ الوردة؟.
ويحول الشاعر أحداثا نعرفها إلى رؤيا تختلف عن رؤية كتب التاريخ الجافة، فهي هنا أناس ومدن وشركات وعواصم مهترئة، ويتساءل؛ هذه وغيرها من أسماء يأخذها إلى ملجأ اللغة أين ستكون بعد أن ينحسر طوفان المصارف والحكومات وشركات التوزيع:
ولكن..
حين تنحسر المياهُ
والمصارفُ
والحكوماتُ
وشركات التسويق
ووكالات الإعلان
وتتلفت حولك باحثا
عن أرض
فلا تجد
ما الذي تفعله
أيها الشاعر
بأسمائك الذهبية؟
هذه الأسماء التي يكتبها الشاعر ويحفظها ستنتظر الأصدقاء القادمين، أصدقاء لايعرفهم الشاعر تحديدا، أي لايعرف ملامحهم، ولكنه يخاطبهم بصفتهم أصدقاءه. هم بعيدون في المستقبل ربما إلا أنهم قريبون أيضاً، فيكتب هذه القصيدة الجميلة:
من أنتمو أيها الأصدقاء
يامن تقرأونني بعيداً
وتنصتون
لوقع الخطى عند بابي
وهسهسة الشاي في قدحي
ولثغة طفلي
وحيرتي مع القصيدة
وهي تجوس ظلام الأزمنة؟
لمحة سادسة:
في المجموعة الثامنة التي تحمل اسم "أبناء الأرض" ، ينشد الشاعر لأطفال صبرا وشاتيلا نشيدا لم أجد أعذب منه في كل ما قرأت من شعر عربي أو فلسطيني، ينشد للذاهبين والقادمين في العام 1983:
دمنا الذي يجري
وتجري فيه قطعان الوعول يفرّ
من وطن إلى وطن
وتشربه المضائق والحدودْ
في كل ناحية
بقايا عالم ينهار فوق شعوبه
يأتي الدليلُ
وبعده يمضي الدليلُ
وتشرب الأنقاض أسئلة الوجودْ
دولٌ تهيئنا لأمريكا
مزارع أو مقابر أو عبيدْ
هل نحن في شعب تموت جذوره؟
هل نحن آخر ومضة في الكوكب العربيّ
آخر حكمة؟
أم نحن من يشهدْ
على فجر الوجود؟
وتأتي بعد ذلك قصيدة "لأية أشجار نغني؟" ، نشيداً آخر، ولكن هذه المرة لليل اللاجئين الفلسطينيين الطويل، اللاجئين الذين هم صلصال الشعوب وملحها، اولئك الذين يتحدون المنهزمين والسماسرة ويعلنون ميلادهم:
دمنا الذي يعدو
وتزحمه الوعولُ كأنما نزلتْ
به سورٌ
وتاه الخلقُ
وانتبهوا لصوت الواقعةْ
من نحن؟
صلصال الشعوب وملحها
لسنا هنالك أو هنا
حتى نحاصر في شقوق الأنظمةْ
لسنا على ورق الجرائد
كي نموت مع انقطاع الكهرباء
وشحة البترول في هذى الفيافي المظلمة
نحن الجذور
تزوجت كل المواسم
نحن آيات ترتلها الفصولُ
وكل فصل ملحمةْ.
* محمد الأسعد، الأعمال الشعرية، الجزء الأول، مرايا، المحلة الكبرى، مصر، 2009
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع