2- إضاءة ثانية: "أشباح سيناء" وتحقق المسرحة
إذا كنا في المسرحية الأولى قد انتهينا إلى كون د- خالد محمد البرادعي استطاع أن يكتب مسرحية شعرية متجانسة الأطراف، محققا جماليات متعددة، فإن مسرحية " أشباح سيناء " سجلت الحضور الفعلي للمؤلف باعتباره حقق القفزة من كتابة النص العادي الشعري إلى مرحلة ثانية شغل فيها هاجس الكتابة المسرحية بعده التام. لأن النص كُتب بدافع تحقيق الإخراج ، وقد اختار من الأحداث ما يناسب الوضعية المتأزمة التي يعيشها الشعب الفلسطيني ومنه جميع الشعوب العربية. وقد تحول الصوت العربي إلى شبح يؤرق بال صاحب التاج ( الشخصية المحورية في النص )، ويتحول من صوت غير مسموع من طرف صاحبته ( الشخصية الثانية المحورية) إلى صورة غير مرئية في المواقف النهائية. لنحكم عليه كونه يشكل الضمير الغائب (وحضوره كغيابه).
1-2- الإرشادات المسرحية الممهدة للعرض
يقول في الاستهلال الخاص بالمسرحية مبينا وضعية الكتابة الأولى للمسرحية:
" كتبت هذه المسرحية أولا: قصيدة حوارية في أعقاب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد. ونشرت في مجلة الموقف الأدبي. ثم أعدت النظر فيها. وكتبتها مسرحية في صيغتها النهائية." 1
وكعادته، يصرح خالد محيي الدين البرادعي عن بعض الإشارات المسرحية. فمن زمان وقوع الأحداث الحقيقة:" يوم من صيف 1976" إلى مكانها:" واحة نخيل في صحراء سيناء" 2 . إلى النموذج النهائي الذي يوصل الذهن بالمتخيّل، وهذا النموذج شكلته الإشارة التي سجلها في بداية النص المسرحي، موحيا بالتكامل بين النص والعرض غلى أساس الاستمرارية.
إن مسرحية " أشباح سناء" لا يمكن أن نتصورها دون أن نعرف الحيز المكاني الذي سجلته في الواقع لكن الكاتب ساعدنا في معرفته ولو جزئيا من خلال قوله:" واحة نخيل في سيناء مزدانة بصورة جميلة ومتفردة." 3 لكنه يضيف إليها بعضا من الإرشادات من أجل مسرحة الموقف، أي وضعه في حالة التمسرح Theatralite لأنه :" لا يوجد في موضوعات غفل ، بل يوجد نتيجة لتدخل ذات مدركة( واعية)، من أجل تكييف مدركاتها عن طريق وضعها في فضاء غير فضائها، أي عن طريق فسح المجال أمام اشتغال فضائي تخييلي، بأن يكف الفضاء عن أن يكون مكانا للأشياء الحقيقية أي مكانا حقيقيا حتى يصير مكانا للأشياء والوقائع التخييلية أي مكانا خياليا."4 لذلك نقول إنه استطاع أن يشكل النص المسرحي كما أراد له أن يكون في المرة الثانية، لا كما كتبه في الأول حين كان مجرد نص شعري حواري.
نعود للإرشادات المسرحية، حيث نشير إلى مجموعة ملاحظات طرحها في بداية المسرحية:
وضعية الممثلَين المكانية (الحيز المكاني)
 
تحت نخلة وعلى مقعدين متقابلين بينهما نضدوا طيء. يظهر صاحب التاج تقابله السيدة الجميلة.
 
على النضد طبق واسع فضي مليء بالفواكه..
 
الوضعية الفيزيولوجية
 
على رأسه تاج ملكي، ويرتدي بزة جنرال. على وسطه مسدسان وخنجر وعلى صدره عدد من الأوسمة.
 
السيدة ترتدي ثوبا ضيقا ومثيرا وهي في كامل زينتها.
 
الوضعية النفسية
 
صاحب التاج يبدو بصورة محيرة.
 
يبدو القلق على صاحب التاج.
 
يزداد قلقه يتحرك في عصبية أكثر.
 
السيدة تحسو كأسا من الشراب وتراقبه بدقة وحذر.
 
تحاول إغراءه. (كل هذه الإشارات في ص- 109.)
 
ويشير أيضا في نهاية هذا المؤشر كون هذه المشاهد مع ما يطبعها من تسلسل في الأحداث، إنما تتم في صمت،" هذا المشهد يتم بصمت تام"1 وهذا ما يؤكد تحقيق وظيفة الحوار من خلال الصمت والحركة.
يزداد قلق الشخصية حين لا تعرف المراد منها في الحياة، وشخصية صاحب التاج تحكمت في وضعيتها داخل المسرحية أشباحٌ متنوعة الأوجه والأشباه، مارست ضغطها عليه لتهرعه وتنبش في ذاكرته الميتة، أو لنقل الضمير الحي / الميت في آن. إن مثل هذه الوضعية سببت القلق الدائم والحيرة في نفسية صاحب التاج ومن الأكيد أن مثل هذه الإضاءة التي وضحها المؤلف مفيدة في إعطائنا صورة كاملة عنه.
إن النص الذي افتتح به البرادعي مسرحيته تتبع فيها هذه الحالة المتأزمة التي تعيشها الشخصية المحورية، فهو:" يبدو بصورة محيرة.. " ويبدو القلق على صاحب التاج" و " يزداد قلقه يتحرك بعصبية أكثر" 1
إن هذه الإشارة الأولى التي جعلها البرادعي خطابا دالا على الحالة التي يشغلها حيز الشخصيتين تنير السبيل نحو معرفة الحوار الموالي الذي تتبعه المؤلف لحظة لحظة، فيه من القول ما يؤكد أهمية الأنواع الحوارية المتعارف عليها.
2-2- العرض المسرحي بين أهمية الحوار وإشكالية الصراع
إن الصراع الذي عاشه " صاحب التاج"، أو لنقل القائد الظالم، صراع سببه ظهور شخصيات أشباح حتمت عليه الانصياع إليها والسير في خطى متوازية والنسيج العام للمسرحية. إن هذا الصراع شكل الخيط الرابط بين النص وتجلياته، وجعلته من الأمور التي أثارتها المسرحية - وهي مسرحية قصيرة من حيث حجم الأحداث، وقلة الشخصيات وضيق الحيز الزماني والمكاني- 2
حين نكون أمام مسرحية من مثل أشباح سيناء للبرادعي ، نحتار في أي من الأمور التي يمكنها أن تكون الدليل على تبني منهج الدراسة، لكن الحوار الثنائي - مع بعض الاستثناءات- الذي ميزها جعلنا نقف على أمور لم تكن لتستبين لولا الإعادات المتكررة في قراءتها.
يبدأ النص بحوار فيه من التأثير والإغراء ما يجعله يكوِّن فكرة عن الحالة القبلية التي كان يعيشها صاحب التاج بغض النظر عن تمظهراته الخارجية.
" السيدة: (وتغني بما يشبه الرقص)
اشرب الكأسين مولاي
وعاقر خمرتينْ
وانس أعباء الرعايا
وأنا أنسيك لو ترى
حكايا الحكم والناس..." 1
وقد تواصل الحوار لفترة قصيرة لا تلبث أن تكون مقدمة للمسرحية لتبني موقف السكون الذي يسبق العاصفة0. بعدها نعيش حالة الصراع الحار المنبثق عن الأشباح التي ظهرت لتلخص قصة حياة الشخصية المحورية. ولولا هذه القفزة لكان النص المسرحي في غاية الرتابة، لكن ذكاء البرادعي لم يخنه حين استلهم شخصية خيالية / حقيقية0 خيالية لأنها لا تظهر أمام السيدة أو لنقل لا تراها، وحقيقية على اعتبار الحوار المباشر الذي يعيشه صاحب التاج معها أولاً، ولأن الصوت والأصوات اللاحقة تؤكد معرفتها له.
" الصوت: أراك.. أرى الخنجر الذهبي
 يلوب على طفلة وئدت
 أو قتيل تعمَّد بالدم بين يديك
صاحب التاج: ( يجأر بصوت مفزع )
 لا ... ليس وهما.. وليس بقايا تعبْ
 لغة كنت أسمعها في ليالي الصخبْ
 يجوِّد إنشاءها خائفٌ
 أو شغوف بنثر الخطبْ
 فمن جاء يحيي المُواتْ
 ويعبث بالنار.. بعد مشيب اللهبْ 1
إن هذا الصوت المفاجئ حرك من سكون الحوار السابق بين صاحب التاج والسيدة المراوغة، وشكل اللبنة الأساسية المشكلة للصراع الذي هو أساس البناء الجمالي الشعري والدرامي على السواء. وهذا الأمر هم ما انتبه إليه عبد الله راجع في تأكيده أهمية الصراع:" الذي يرتكز أساسا على تعدد المواقف والحالات النفسية والأفكار داخل وحدة تتميز بنمو الجانب الفكري والشعوري داخل النص نموا طبيعيا، وهذه مهمة ينجح في أدائها المسرح، إلا أن النص الشعري الغير المسرحي يمكن أن يؤديها بنجاح متى وفق في المزج بين المتناقضات المتصارعة." 2
من الواضح أن خالد محيي الدين وفق في خلقه الصراع ، ومن المفارقات القوية التي تثبت كونه استطاع أن يلحم بين النص العادي الأصلي الذي كان حوارا إلى النص الدرامي الجديد، هو الخيط الرفيع المشكل لذلك الترابط. من الصوت الأول الذي يسُمَع فقط، ثم تحوله إلى صورة إنسان مشوه لاحقا، وظهوره بصفة مجتمعة والصوت الجماعي الذي كان هو صوت الشعب المتمرد، أو صوت الذاكرة الجمعية.
وليس غريبا أن تتحول نظرة السيدة لسيدها، فبعد أن كانت لفترات أولى فاتنة ومؤثرة، تتحول إلى امرأة مشاهدة للمشاهد المتتالية أمامها ومنصفة لسيدها بأن تتعامل معه كالمجنون:
"( صاحب التاج يتضايق. يصوب مسدسه نحو وجه المشوه. تحاول السيدة تهدئته. فهي لاترى الشبح بالطبع ولا تسمعه. تتعامل مع صاحب التاج تعامل الطبيب مع مريضه.)" 1 من هنا نلحظ كيف تعامل المؤلف مع شخوصه الثلاث، إضافة إلى أصوات الأشباح التي كانت تتميز بالظهور والاختفاء المفاجئ، أضيف إلى هذا التناوب الحاصل في تحول المواقف المشكلة للصراعات والمواقف الثنائية الحارة.
                 
1 - المسرحية الثانية: أشباح سيناء، ( م- س)، ص- 107.
2 - نفسه، ص- 107.
3 - نفسه، ص- 109.
4 - عز الدين بونيت: المسرح المغربي والمسألة التراثية،مجلة آفاق،(اتحاد كتاب المغرب)، العدد- 3، خريف 1989،ص- 32.
1 - المسرحية، (م- س)، ص- 110.
1 - المسرحية: ( م- س)، ص- 109.
2 - مسرحية "اشباح سيناء" تسير وفق حدث متواصل المشاهد، ولعل هذا التوصل والاستمرارية ما جعلها تكون أقل من المسرحية الأولى استثمارا للمشاهد، والأدوات المسرحية المناسبة، باسثناء الوضعية التي وضحها المؤلف في أولها، إضافة إلى جماليات التعامل مع الصوت والصورة، (الحاضرين/ الغائبين)، وهو ما سنفصل فيه لاحقا، على قدر الأهمية التي تشكلها داخل النص/ العرض.
1 - المسرحية: ( م- س)، ص- 111.
1 - المسرحية: ( م- س)، ص- 115.
2 - عبد اله راجع: القصيدة المغربية المعاصرة، بنية الشهادة والاستشهاد، منشورات عيون، ط- 1، 1987، دار قرطبة للطباعة والنشر، ص- 175.
1- المسرحية: (م- س )، ص- 130-129.
2 - نفسه، ص- 127.

المراجع

almothaqaf.com

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع