كان عبقريًّا بكل ما تعنيه الكلمة، وملأ الدنيا ضحكًا وشعرًا وهزلاً وجدًّا قبل أن يغتالوه في مطلع شبابه، ولم يتجاوز الرابعة والعشرين. ديوانه كبير يزيد على خمسمائة صفحة، في منتهى الثراء والقوة والتنوع المدهش بالنسبة لشاعر لم ينه دراسته الجامعية، ولم يعرك الحياة، وإن كان منذ صغره متوقد العقل، مستيقظ الحس، مشحوذ الوعي والوجدان..
إنه الشاعر الفحل، والمفكر ذو الدم الخفيف هاشم الرفاعي الأزهري الدرعمي اللغوي الثائر الساخر، الذي يعنينا منه في هذه الزاوية وجهه الآخر الذي لا يعرفه كثيرون: جانبه المرح، حين يرسل الطرفة شعرًا رائقًا لذيذًا مطربًا، كما يرسله سيفًا موجعًا قاطعًا، ويمزج الهزل بالدمع السخين، والشجو الحزين، ليعطيك نوعًا من الكوميديا السوداء ذات الطعم المر، وسأسوق هنا نماذج من شعره الساخر ومن كوميدياه السوداء، ولك قارئي العزيز أن تحكم على هذا الفتى العجيب الذي انتشر في مطالع شبابه بسرعة الصاروخ، ليثير قلق شياطين رأوا أن الخير في أن يقتلوه قبل أن يذوق طعم الحياة، ليحرموا الأمة شاعرًا منعدم النظير، فدعني أبدأ بهذه القصيدة الوجيعة، ولك وعد بعد ذلك أن تطرب من خفة دمه وروعة أدائه:
لما كتب الأمير شوقي قصيدته عن الأزهر:
قم في فم الدنيا وحي الأزهرا وانثر على سمع الزمان الجوهرا
واجعل مكان الدرِّ إن فصلتَهُ في مدحِه خرزَ السماءِ النيِّرا
كان الأزهر يستحق الثناء والسؤدد، ثم لما رأى الرفاعي حال الأزهر، وضعف أدائه وجمود بعض مشايخه وتخاذله في المواقف الجادة الفاصلة، كتب معارضة تقطر مرارًا للشوقية الفائتة، غير مبالٍ بما يمكن أن يواجهه به بعض المشايخ:
قف في ربوع المجد وابك الأزهرا.....واندبه روضًا للمكارم أقفرا
واكتب رثاءَكَ فيهِ نفثةَ موجَعٍ.....واجعل مدادَكَ دمعَك المتحدرا
المعهد الفردُ الذي بجهاده.....بلغت بلاد الضاد أعراف الذُّرَى
سار الجميع إلى الأمام وإنه.....في موكب العلياء سار القهقرَى
لهفي على صرحٍ تهاوى ركنه.....قد كان نبعاً بالفخار تفجَّرا
من كان بهجةَ كل طرفٍ ناظرٍ.....عادت به الأطماع أشعث أغْبَرَا
ما أبقت الأيدي التي عبثت به.....من مجدِه عرضًا له أو جوهرا
ويتذكر شيئًا من أمجاد الأزهر التي يتباهى بها قومه، دون أن يتخذوها منهجًا، أو ينتفعوا بها، أو يخدموا أنفسهم وأزهرهم ومصرهم وأمتهم:
لله ما أروي له في الشرق من.....مجد على الأيام واراه الثَّرَى
كم موكبٍ في مصر سار إلى العلا.....قد كان قائد ركبه المتصدِّرَا
عجباً أيدركه الأفول لدى الضحى.....من بعد ما نشر العلوم مبكرا
سل مهبط الثورات عنها.. إنه.....قد كان ناديَها.. وكان المنبرا
المشعلون لنارها أبناؤه.....تَخِذوا به جندًا هناك.. وعسكرا
والمضرمون أوارها بُلَغاؤه.....في نشر روح البذل فاضوا أنهرا
من كل ذي حِجْرٍ لخير بلاده.....رسم المكيدة للدخيل ودبَّرَا
لا ينثني عن بعثها دمويةً.....أو يدركَ النصرَ المبين مظفرا
ثم يتحدث عن شيوخ للأزهر كانوا نماذج للعلم والاستقامة والوطنية والغيرة، معرضًا بغيرهم من المرتزقة والمنتفعين ونهازي الفرص ولاعقي الأحذية:
سل موئل الأفذاذ من أشياخه.....عن معشرٍ كانوا به أُسْد الشَّرَى
العاملين لرفعة الإسلام ما.....منهم كَهامٌ قد ونى.. أو قصَّرا
والمبتغين رضا الإله وما ابتغوا.....من حاكمٍ عرَض الحياة محقّرا
كانوا المنار إذا الدياجي أسدلت.....ثوبَ الظلام هدى الأنام ونوّرا
كانوا لمن ظُلموا حصون عدالةٍ.....كانوا الشكيم لمن طغى وتجبَّرا
ردُّوا غواة الحاكمين، وغيرُهم.....لتملق الأهواء كان مسخّرا
لرضائها يبدي الحرام محللاً.....ويدكّ معروفًا.. ويبني منكرا
في وجهها وقفوا وهم عزلٌ وما لبسوا سوى ثوب الهداية مِغْفَرا
وإذا رأى منهم هُمام ريبةً..... ناداه داعي دينِه أن يزأرا
ما قامروا بالدين في سبل الهوى.....كلا ولا تَخِذوا الشريعة متجرا
عاشوا أئمة دينهم وحماته.....لا يسمحون بأن يباع ويشترى
ثم انطوت تلك الشموس وإنها.....لأشد إيمانًا وأطهر مئزرا
ثم يعرِّض بمناهج الأزهر السقيمة الخيبانة، التي لا تبني دينًا ولا دنيا:
إن كان مجد الأمس لم نلحق به.....أفلا نود غدًا نصيبًا أوفرا؟
هذي العلوم وحشوُها لغو به.....من كل جيل لا يزال مسطرا
علم نعالجه بفكر جدودنا.....يبدو به الهذر القديم مكررا
إنا نريد من التقدم قسطَنا.....ونريد للإسلام أن يتحررا
ونريد أن نسقي الفنون رفيعةً.....تجدي وليست طلسمًا متحجرا
ما العلم إلاّ ما تراه لديك في.....لُجَجِ الحياة إذا مضت بك مثمرا
أنى لمن ألفت نواظره الدجى.....عند الخروج إلى السنا أن يبصرا
ويطالب الأمة أن تعيش عصرها، وتواجه أزماتها، وتأخذ مكانها بين الأمة نهضة وعلمًا وقوة:
أنكون في دنيا الرقي نعامة.....نخفي الوجوه وقد عرانا ما عرا
ما ضرني إذ نحن نخدع نفسنا.....لو قلت ما أدري وفُهت بما أرى
ليس التعصب للأبوة مانعي.....من أن أقول الحق فيه وأجهرا
أترى تعود إلى المريض سلامةٌ.....أم تصرع الأسقام من قد عُمَّرا؟
ترى ماذا لو عاش الرفاعي – الذي اغتيل قبل أن يتخرج من الجامعة عام 1959 - ليرى الأزهر الآن، ويشهد ذلته وهوانه، وهزال مناهجه، وسقوط أثره، وافتئات الذباب والهوام عليه، واجتراء العميان والمخابيل والخونة والأرزقية والمطبلاتية وتجار الأعراض على رجاله ورسالته وما يمثله.. فماذا كان سيقول هاشم الرفاعي رحمه الله؟
حسبك قارئي العزيز أن تعرف أن مصر كلها بكت هذا الشاب العبقري، بكاءً موجعًا، وممن كتبوا في رثائه الأستاذ الشاعر علي الجندي أستاذه وعميد كليته - دار العلوم - وكان يتنبأ له أن يصبح أشهر شعراء العربية في العصر الحديث، فقال:
لهف نفسي علي الصبا المنضور..... لفّهُ الغدرُ.. في ظلام القبورِ
لهف نفسي علي القريض المصفى .....صَوَّحت زهرَه عوادي الشرور
لهف نفسي على النبوغ المسجى.....برداء من البلى.. والدثور
ما للغبيِّ وللفوتبول يرفُسها؟!
...... ورغم أن أكثر ما اشتهر به الرفاعي عند غير المهتمين بالشعر، قصيدتاه: رسالة في ليلة التنفيذ (عن شاب ينتظر الإعدام، ويترجم مشاعره قبل أن يموت) و: نم يا صغيري (عن الأم التي سجن ولدها وعذب ثم قتل بأيدي جلادي التعذيب) وإسلامياته الأخرى وهي كثيرة، مجموعة في ديوانه الضخم الذي حققه المرحوم الأستاذ محمد حسن بريغش، إلا أن حياة هاشم الرفاعي رحمه الله تعالى كانت مملوءة ضحكًا و(تنكيتًا وهزارًا) حافلة بقصائد عامية طريفة، ملأى بالسخرية والقفشات الجميلة (لاحظوا أيضًا عصره وسنه).
ومن خلال الديوان كونتُ صورة عن الشاعر العظيم الذي فجعني موته في سنه الباكرة، كما أسعدتني قصائده العامية التي وضعت في آخر الديوان - وهي كثيرة - إذ رسم بها صورًا ضاحكة، ولقطات بارعة، أحسن توصيلها من خلال المفردات المصرية الشعبية العريقة، والصور الذهنية المثيرة للقهقهة لا للضحك فقط!
سافر طلاب معهد الزقازيق – وكان طالبًا به - إلى الأقصر وأسوان، وذات سمرٍ ألقى قصيدة مليئة بالظرف والفكاهة، واللغة الأزهرية الطريفة، وفيها يسخر من الزي الأزهري الذي قيد حركة الطلاب أثناء الرحلة، ويتندر على محدودية النفقات المسموح بها، و( مَعْيَلة ) بعض الأصحاب، ويهدد بأنهم إذا لم يحولوا الرحلة الأزهرية إلى رحلة حقيقية، فإنه سيشعلها ثورة عليهم فكتب «من وحي رحلة» قائلاً:
أتيْتُ إلى هذه الرحلةِ..... أجرِّرُ أذيَالَ كاكولتي
وقيل ليَ: الزيَّ لا تنْسَهُ.....فلمْ تنجُ رأسيَ منْ عِمتي
وقد لبس الكلُّ ما عندهمْ.....من البنطلونِ إلى البدْلةِ
وهأنذا بينكمْ قدْ ظهرْ.....تُ حزينًا بهاتيكمُ البلْوةِ
وما أنسَ لا أنسَ أمرَ الطعامِ.....وقدْ أوقعَ الكلَّ في ورطةِ
لقدْ قتَّروا في مصاريفِنا.....وما لايمونا على الفكَّةِ
إذا قلتُ: هاتوا لنا مأْكلاً.....يقولون: هلْ نحْنُ في ختْمةِ؟
وها نحن لمْ نلْقَ زادًا لنا.....سوى العيشِ والمِلحِ والجبنةِ
و«شاهينُ» جاءَ لنا عامِدًا.....يُحَنِّسُنا اليومَ بالفرْخَةِ
وراحَ يُقطِّعُها بيْننا.....ويبلعُ ما طابَ منْ لحْمةِ
وما قالَ: هاشمُ خُذْ حتةً.....وقد كنتُ نِفسي في حتةِ
فأُقسمُ إن لم يجيبوا لنا.....لحوماً من الغدِ بالأقَّةِ
ويحصلُ طبْخٌ ولهْطٌ وشفطٌ.....ونغرقُ في الدهنِ والفتَّةِ
سنُعلنُها ثورةً لا تلينُ.....وكمْ أشعلَ الجوعُ منْ ثورة!
والكاكولة - لمن لا يعرف - هي المعطف الأزهري الطويل، ولا أدري لماذا اختاروا لها هذا الاسم الهجين! هل كان مهارة في التسويق من بتوع شركة كوكاكولا، أم إيماء بأن لابسها يشبه (إزازة كاكولا) أم إنها تصحيف أزهري لجبة القسيس Cloak وهو الأرجح عندي،.... والله أعلم) ومعنى لايمونا: مَكَّنُونا، والفكة كناية عن الفلوس، والختمة هي قراءة القرآن كله بالأجر، وهي مهنة للفاشلين في الأزهر يرتزقون منها، ويحنِّسنا يعني يثير شهيتنا وطمعنا، وبقية المفردات حضرتك تعرفها قارئي العزيز!
ومن قصائده الضاحكة تلك التي أسماها: الخيبة الكبرى، ونظمها وهو في الثامنة عشرة من عمره (عام 1953م) قبل أن أولد بكم شهر، حين هُزم فريق معهده في مباراة كرة قدم، والمعروف عن الأزهريين أيامذاك أنهم أبعد الناس عن الكرة، واللعب، والمرح، بل إن الضحك قد يكون في نظر كثيرين منهم من (قلة القيمة)! وقد نشأت أنا شخصيّا - قبل 170 سنة - في جوٍّ يرى أن (العيال البايظين بس) هم الذين يلعبون الكرة، وأن المستقيمين لا يعرفون إلا الكِتاب والمسجد فقط (!) يا خبر! طيب ازاي؟!
لهذا كانت قصائد الرفاعي تحفًا أدبية وثورة وريادة وفنًّا شعريًّا بكل المقاييس! يقول لما عاد زملاؤه مهزومين في دوري الكرة، معارضًا قصيدة سيدنا حسان رضي الله عنه:
يا خيْبةً قدّروها بالقناطيرِ.....جاءتْ لنَا في نهارٍ كالدّياجيرِ
إني ذهبْتُ إلى النّادي فطالعَني.....مقطِّبَ الوجْهِ مُغْبَرَّ الأساريرِ
يبكي ويندبُ مَن خابوا بملْعبِهِ.....وفي المُباراةِ صاروا كالطراطيرِ
من كلِّ شحْطٍ أطالَ اللهُ قامتَهُ.....يكادُ يصلُحُ في جَرِّ الحناطِيرِ
ما كانَ مُنتظَرًا هذا المُصَابُ لكمْ.....يا فرقةً كوّنوها من خناشيرِ
ما للغبيِّ وللفوتبول يلعبُها.....يا ليْتهمْ علَّقوكمْ في الطّنابيرِ
أخزاكمُ اللهُ قدْ جئتُم لمعهِدنا.....بالعارِ يا فتيةً مثلَ المواجِيرِ
في الماتْشِ لمْ تلْعبوا لكنْ رأيتكمو.....في البُرتقالِ نزلْتُمْ كالمناشيرِ
لو كنتُ أعلمُ أنَّ الخيبةَ انْقَسَمتْ.....منْ حظِّكمْ في سِجلاّت المقاديرِ
لكنتُ جئتُ بطبّالٍ يزفكمو.....ورحتُ أتلو على لحْن المزاميرِ:
لا بأْسَ بالقوْمِ منْ طولٍ ومنْ غِلَظٍ..... جِسْمُ البِغالِ وأحْلامُ العصافيرِ
ولأن الشباب بلا خبرة، ولا لياقة بدنية، ولا حرص على الفوز، فقد تتابعت الهزائم على معهد الزقازيق الديني من الفرق الرياضية الأخرى، وفي الرياضات كلها، فعاد الرفاعي لينظم قصيدة أخرى بعنوان: هزيمة:
(تعالى) يا فريقُ هنا «تعالى».....فذمُّكَ بيْننا أضْحى حلالا
لمنْ أُهْدي القصيدةَ؟ لستُ أدري.....أأُهديها حبيبًا أمْ هلالا؟
كِلا البطليْنِ فرقتُهُ تبَارتْ.....فما ساوَتْ لدى اللعْبِ العيالا
لنا في «الباسكتِ» اختاروا فريقًا.....يُحاكي في ضخامتِهِ البغَالا
وفي «الفوتبولِ» أفرادٌ تبَدَّوْا.....عِراضًا في ملاعبِها طِوالا
إذا ما صوّبوا كرةً يمينًا.....لخيبةِ أمرهمْ طلعتْ شِمالا
وليْس لهمْ بها علمٌ.. ولكِنْ.....خَدُوها بالتلامةِ والرّذالا
أيصلحُ للرياضةِ فيلُ قومٍ.....إذا ما سارَ تحسبُهُ الجبالا
يُحرِّكُ جسمَهُ المكتظَّ لحما.....ويحسبُ نفسَهُ فينا غَزالا
إلى المحراثِ شدوهُمْ وإني.....سأفتلُ كيْ نجرَّهمُ الحِبَالا
مفردات شعبية معرقة في المحلية، وصور فنية مملوءة ضحكًا وسخرية وخفة دم، وقد ذكرني رحمه الله بألفاظ مثل المواجير (جمع ماجور وعاء فخاري كبير للعجن) والحناطير (جمع حنطور، وسيلة ركوب شعبية يجرها حصان) والطنابير (جمع طريفة طنبور وهو آلة للري اليدوي) والخناشير (جمع خنشور وهو الرجل الجفر العتل) والقناطير، والشفط، واللهط، والتلامة، والرزالة، وفتل الحبال، وأجسام البغال!
مشْيُ الهلافيت!
ويستمر الشاعر الشاب الذي اغتيل بأيدي (المناضلين) في إطلاق أشعاره الطريفة، في مقطعات قصيرة وطويلة، حافلة بالمفردات العامية المصرية، التي تفجر الضحك في النفس تفجيرًا، والتي لم يفهمها محقق الديوان الأستاذ بريغش رحمه الله - لكونه سوريًّا بعيدًا عن دلالات ألفاظ الريف المصري - ما جعلني أصمم حين أهداني إياه قبل عشرين سنة، أن أخدم الديوان، وأستل منه القصائد العامية فأحققها، وأشرح مفرداتها وكناياتها وتعابيرها العامية، بطريقتي خادمة للنص، لكنني كالعادة أنسى وعودي لنفسي، ولعلي أفعل.
ومما قاله الرفاعي رحمه الله تعالى في باب الدعابة والظرف عام 1952، ممازحًا زميلاً له، ومعارضًا أبياتًا شهيرة لامرئ القيس:
أتانا غنيمي بالفطير وأحضرا.....وكنا حسبناه دجاجًا محمرا
بكى أحمدٌ لما رأى اللفتَ دونهُ.....وأيقن أن الجوعَ كان مقدرا
فقلت له: لا تبكِ عينُك إننا.....سنأكل لفتًا أو نموت فنقبرا
وأَحْضَر هنا: من الإحضار، وهو الإسراع.. وقال مهددًا أحد إخوانه أبناء الريف:
يا زارعًا في الحقل ركنَ خيارِ.....في القطنِ كي يخفى عن الأنظارِ
قسمًا لئن لم تأتني بزيارة.....(لَأقولُ) فيك قصيدةً من نارِ
ويراد بالزيارة: السَّبَتُ المليء بخيرات الريف أيام زمان، من الخضر والفاكهة والجبن والقشدة والفطير المشلتت وغيرها!
وقال مستعرضًا - في إبداع واختصار - رد فعل زوجة فلاحة نَكَدية، مسيئة في ردودها على زوجها، ونَفَسه هنا بيرميٌّ خالص:
لعمرك إني قد برِمت بحرمةٍ.....إذا قلت يومًا هاتي الفرش تردحِ
وإن قلت هاتي فَطِّريني رأيتُها..... تقول حدَاك العيشُ والجبنُ فاطفحِ
والحرمة الزوجة (وهو معنى شريف عكس ما يفهمه العُور) وحَداك: عندك، واطفح: من ألفاظ الإيتيكيت الفلاحية المهذبة ، وتعني كُلْ بالهنا والشفا! كما تقول: اتلقح.. بمعنى تفضل!
ولعل من روائع سخريات هاشم الرفاعي ونقده الاجتماعي قصيدة مشي الهلافيت:
لا بالملامِ... ولا بالنُّصحِ تنتفعُ.....متى أراكَ عن التَّهليسِ تمتنِعُ
رأيْتُ ذقنَكَ مثلَ الصُّوفِ شايِبَةً.....ولسْتَ عنْ سيْرِكَ البطَّالِ تنْقطِعُ
كَييفُ مرْمطةٍ، حريفً شعْبَطَةٍ.....من غيْرِ لخْبطةٍ للطيْشِ تنْدفِعُ
وأنت مشْ عيَّلٌ حتى يليقَ بهِ.....هذا الهِزارُ وهذا اللَّهوُ والدَّلَعُ
قضيْتَ خمسينَ عامًا كلُّها قَرَفٌ.....حتى كبرْتَ وعادَ الضرسُ ينخلِعُ
عارٌ عليْكَ إذا أصبحْتَ مُنْحنِيًا.....وفيك كلُّ صنوفِ الهلسِ والبدَعُ
وقد بدا رغمَ مكياجٍ تُزاولُه.....في رأسِكَ الأبيضانِ الشيبُ والصَّلعُ
قطعْتَ عمْركَ في هزلٍ ومسْخرةٍ.....وعندك البؤسُ بالتشبيحِ يجتمعُ
فكمْ سهرْتَ بكازِينو تُبعزقُ في.....مصروفِ بيتِكَ والأولادُ ما شبعوا
إذا رأيْت «لهاليبو» لك ابتسمتْ.....تطبُّ في حبها كالعِجْلِ إذْ يقعُ
لكَ انبساطٌ وتهْييصٌ وفرفشةٌ.....وللوليَّةِ همُّ القلْبِ والوَجعُ
اسمعْ كلاميَ يا هذا وكُنْ رجلاً.....مشْيُ الهلافيتِ مشْيٌ ليْسَ ينْبلِعُ
وهاك يا قارئي الفوكابلري أو معاني المفردات: الهلافيت: جمع هلفوت وهو التافه الذي لا يؤبه له، والتهليس: هو المسخرة والمشي البطال! والمرمطة: البهدلة، والشعبطة: الله ما يوريكم، وأنت مشْ عيلٌ تعني: لستَ صغيرًا، والأقْيَسُ أن تكون مش عيلاً، بالنصب خبرًا ل( مش ) النافية التي تعمل عمل ليس. والتشبيح: البلطجة، وتبعزق: تنفق بلا حساب، ولهاليبو: رقاصة من بتوع الكازينوهات اللي مش تمام، من أيام الأبيض والأسود المهزوز، سمت نفسها بعد انتشار فيلم نعيمة عاكف بتاعة السيرك، والانبساط والتهييص والفرفشة: سيادتك عارفهم، والولية - بكسر الواو - هي الست الغلبانة المتلقحة في الدار، والهلافيت: مرّت أول الكلام، ما توجعش دماغنا سيادتك.
ومن أشهر قصائده وأطرفها قصيدة له في شكوى الزمان بعنوان: الفولُ أكلي ما حييتُ:
الفقْرُ يملأُ بالمذلة كاسي.....إني سأُشهرُ في الورى إفلاسي
لا الجيْبُ يعمرُ بالنقودِ، ولا يدي.....فيها فلوسٌ زيِّ كلِّ الناسِ
أصبحْتُ باطيَ والنجومَ، ولا أرى.....أحدًا يُخفف كُرْبتي ويُواسي
الفولُ أكْلي ما حييتُ وإنني.....متحرِّقٌ شوْقًا إلى القٌلقاسِ
قدْ كدتُ يا قوْمي أصيحُ منهِّقًا.....وتخلّعتْ منْ أكلِهِ أضْراسي
البطْنُ خالٍ كالجيوبِ.. وأشْتهي.....ما في المسامِطِ منْ لحومِ الرّاسِ
وإذا مشِيتُ فإنني مُتهالكٌ.....وأكادُ ألفظُ جائعًا أنفاسي
وأمُرُّ بالحاتي فأهتُفُ قائلاً: .....كمْ ذا يُكابِدُ مُفلسٌ ويُقاسي
قدْ بِعْتُ مهريَّ الهدومِ وفي غَدٍ.....سأبيعُ حتْمًا للعبادِ نُحاسي
وإذا ذهبْتُ لحفْلةٍ أشْدو بلا.....أجرٍ كعبد الحيِّ أوْ حوّاسِ
فهناكَ منْ يأتي يُهدِّدُ صائحا: .....اجلسْ لحاكَ اللهُ منْ هَلاّسِ
فألمُّ أبياتَ القصيدِ وأنثَني.....أمشي على الطرقاتِ كالمُحتَاسِ
ويظلُّ ينخلعُ الحذاءُ على الثَّرى.....فمقاسُ صاحبِهِ خِلافُ مقاسي
لوْ كانَ هذا الفقْرُ شخْصا بيْننا.....لقطعْتُ حالاً رأْسَهُ بالفاسِ
ومفردات هذه القصيدة سهلة جدًّا قارئي العزيز فهاك معانيها:
زَيِّ: اسم يفيد التشبيه مبنيي على الكسر! باطي والنجوم: كناية عن الفقر الدكر، منهِّقًا: يعني صارت ودانه طويلة الله يعزك، المسامط: جمع مسمط وهي محلات تطبخ زبالة اللحم وأطراف الحيوان خاصة، ولا أدري كيف يأكلها بعض الناس! والحاتي: مطعم مش عارف ليه سموه كدا، والظاهر أنها لفظة عثمانلية، ومهري الهدوم: الخَلَق من الثياب، والنحاس: أوعية البيت المختلفة التي تجهَّز بها العروس (الحلل والطشوت والإبريق) وهو ثروة الفلاحين أيام زمان، حين كان يتباهون بأن أوعيتهم المنزلية نحاس مش ألمونيا، وكانت المرأة تعير ضرتها قائلة: (كل نحاسك ألمونيا!) وعبد الحي وحواس: مطربان شعبيان، ثانيهما بلدياتي شخصيًّا من قرية اسمها سندبسط على أطراف المحروسة زفتى ست الدنيا! والهلاّس: هو الخبّاص، والمحتاس هو الملخوم والمرتبك، وفي البيت قبل الأخير معنًى بديع تأمله بنفسك، واللا هاقول لسيادتك كل حاجة؟!
أخيرًا: رحمك الله يا رفاعي وتقبلك في الصالحين..

المراجع

odabasham.net

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع