عندما يدخل الشعر إلى حدائق الله تشرق الشمس بنور مختلف وتزقزق عصافير مغايرة موسيقاها من جنة عدن فإذا جاوبتها عصافير مغربها الذهبي استطالت مشاعرها بالغناء، لتصوغ ملحمة فتية، هكذا التقيا شاعران واحدهما من الشرق والآخر من الغرب، شرقي مسلم وغربي مسيحي، لكن كلاهما إنسان شاعر محتشد الوجدان بالإنسانية ومحبة الله هنا تنبت نقاط الالتقاء وتتزاحم على أغصان أشجارها الثمار الجمالية والمعرفية، المتعة والقصيدة مبللتان بالحب بشقيه الناسوتي واللاهوتي، قصيدة متكاملة من مقاطع تبعد الرتابة عن اللحن الشجي، قطعة من موسيقا الروح تعزفها أنامل شاعر فلسطيني عربي شرقي هو منير مزيد، بالتضافر مع شاعر إيطالي أوروبي غربي هو ميكيلي كاكمو، فيصعد النشيد إلى الله مبتسما حاملا على أكتافه سحر العذوبة وراحة الغفران، ليصنع عالما بين السماء والأرض يغني أغنية عن الله والعالم عن السماء والأرض عن الشرق والغرب، ودائما بينهما الإنسان الذي مهما انشعب إلى أعراق وألوان وألسنة ومن ثم إلى أفكار ورؤيات وتصورات وعقائد سيظل الإنسان إنساناً.
قصائد بلغة النور:
عنوان المجموعة ينقلنا إلى براحين مختلفين، فضاءين لكل منهما ظلاله المختلفة، الأول فضاء المقدس وما يسمه من مظاهر شبه ملحمية، وهذا التفسير موجود بقوة في شعر ميكيلي كاكمو، والآخر الفضاء الرعوي وما يميزة من غنائية رقراقة وصفاء بهي، وهذا التفسير يتحقق عند قراءة شعر منير مزيد، وهما معا يشكلان الثنائية المقدسة التي تجمع بين الإنساني والمقدس.
فالمجموعة تحتفي بفكرة المتقابلات، فالسماء فيها تقف في مقابل الأرض والمملكة العليا في مواجهة المملكة السفلى والأعلى يقابل الأسفل، هذا الأسلوب التقابلي يستعين به الشاعران في معالجة قصائد حوارهما الثقافي، ليصلا منه وبوساطته إلى المجرد : الله والإنسان، فتتآكل على أطراف قصائدهما خرافات التعصب والصراع العرقي والديني وفي الوقت نفسه يقدمان دعوة إلى المعرفة الحقة، إلى البصيرة والتنوير، فالمعرفة هي الطريق إلى الله.
وقد امتدت هذه النزعة التقابلية إلى الشاعرين نفسيهما، فمثلاً في قصيدة "الكلمة المقدسة" يطرح منير مزيد فكرة أن الشاعر وجد الله في المعرفة؛ فيجسد من خلالها التائه الحيران الذي عثر على ربه فهدأت نفسه واطمأنت؛ بينما ميكيلي كاكمو في قصيدته سأنتظرك ينصب من نفسه ملاكا يعين هذا الحائر للصعود إلى الله، حيث مملكة السماء غير المدنسة ، وهنا يتقابلا فيتكاملا.
قصائد النور إذن عمل استثنائي، يستمد أهميته من هذه الروح التي تجمع الإنسانية فتعيدها إلى الأصل، وهو التلاقي، وتفتح الباب لبذر التسامح ونشر المحبة بين الأديان والأعراق، لقد أراد الشاعران أن يصنعا نموذجا يقتدى، من خلال هذا المشروع الإنساني الجليل الذي يكشف عن إنسانية الإنسان لدى ثقافتين هما طرفا الحوار، من خلال الشاعرين وبينهما روزا كاكمو التي كانت وسيطا لنقل قصائد ميكيلي إلى الإنجليزية تمهيدا لنقلها على يدي منير مزيد إلى العربية، وربما أثر ذلك على فقد الكثير من روح ميكيلي كاكمو لأن قصائده نقلت بوساطة لغة وسيطة، لكنها عند نقلها إلى العربية وقعت بين يدي شاعر متمرس استطاع أن يرد إليه كثيرا مما فقدته والشاعران من خلال قصائدهما يرجعان الهدف من هذا الحوار الثقافي في سياقه الشعري إلى إشعال طاقة من نور تهدي الحائرين في ظلام التشظي الذي يظلل أرواح الناس اليوم، وقد عبر عن هذا الهدف الشاعر ميكيلي كاكمو في قصيدة "المساواة العادلة" بقوله:
كلا الإيمان والنور
هدفنا إلى يوم القيامة
فهو إذن هدف ممتد وغير وقتي، يضاف إلى الهدف الأول وهو التلاقي الموضوعي والإنساني.
بين الرعوية والملحمية:
على الرغم من أن كاكمو يميل إلى التكثيف وليست هناك أية علامات حشو أو إسهاب في قصائدة التي قد تصل إلى حد الومضة الشعرية، إلا أنني لمست روح الملحمية متجذرة في نصوصه، ومن سمات الملحمية في شعر ميكيلي كاكمو إبراز نقاط الصراع بين الذات والمحيط، والحرص على إيقاعات الأشياء ومصائرها، والانبعاث القيمي للذات داخل الموضوع ، والحرص المفرط على البطولة والفاعلية، اللتان يحصرهما الشاعر غالبا في نفسه.
في مقابل البحث عن البراح والرومانسية والانطلاق والجمالية التي تأخذنا إليها غنائية منير مزيد؛ تلك الغنائية التي تُفضي إلى الذاتية والدلالات الوجدانية، والتي تجعل من الذات الفردية ووجهات النظر الوجدانية محورا لتشكيل وأداء القصيدة؛ أما ميكيلي كاكمو فيميل إلى الجماعية والمدلولات المعرفية والميثيولوجيا، بخلاف منير مزيد الذي يهيئ عند استخدام الميثيولوجيا مسرحاً غنائيا تترقرق على صفحته، فمثلاً في قصيدته "السراج" يستخدم مزيد بعده الغنائي للتعبير عن الشعلة الإنسانية بوصفها فكرة ملحمية ميثيولوجية لكن بأسلوبه الغنائي؛ حيث يختزل معنى الحياة في كونها سراجاً نوره الحب، وقد جاء منير مزيد حاملا معه شعلة الإنسانية، ويطلب ممن استمد من محبتها ذرة دفء لمست قلبه أن يزكي نارها، وهو هنا يطرح فكرتا التلامس العقدية المسيحية والمسيرة الإغريقية، حيث تنتقل الروح باللمس المادي وإن كان غير مقصود، كما تُسلم الشعلة من يد إلى يد، فإشعال نارها ليس سوى تعضيد ومساندة لمسيرتها والحفاظ على بقائها.
ويربط الشاعر ميكيلي كاكمو قصيدة "السراج" لمنير مزيد، تلك التي تحمل فكرة الاندفاع بالشعلة نحو الأمام، بقصيدته "اخترقت كل حرب" رباطا موضوعيا لاستكمال دور الشعلة المتقدمة صوب الأمام؛ وقصيدته "اخترقت كل حرب" هي مثل "السراج" أيضا في كونها ومضة شعرية، تحتوي على صورة كلية تتكيء على تراثها الثقافي في تشكيل ملامحها من خلال مفردات الحرب والملائكة في أشكال بشرية لهم أجنحة ساطعة بالنور تساند هذا الفارس، وإليها يرجع اختراقه للحرب وقوته البشرية التي تستمد وجودها الحقيقي من مساندة المملكة العلوية.
وتبقى لكل شاعر منهما ميزته وبصمته الخاصة، فلشعر منير مزيد ميزة مهمة تجعلنا مأخوذين بطرحه الوجداني العميق السلس، عنده المقدس يأخذنا إلى الفطرة والفطرة تأخذنا إلى الشعر الرعوي والبراح، فالشاعر في مطلع قصيدته "الكلمة المقدسة" يتصادم مع المنجزات الحضارية مستعينا بمدخل مضلل يسترق أرواحنا من ضجيجها الأرضي لنتبعه إلى المملكة العلوية، حيث الصفاء والسمو، فيقول: "العالم يعج بالفتنة والسحر"؛ إنها عبارة مضللة على أصعدة مختلفة فإما أن تكون ذات دلالة إيجابية بمعنى (باهراً)، وربما تكون ذات دلالة سلبية أي أنه محتشد بالضلال؛ وهو المعنى الذي يقصد إليه الشاعر، لأنه المعنى الذي يفرضه جو النص وبيئة الدلالة الكلية للقصيدة والديوان، ليأخذنا الشاعر بوساطته إلى هدم القيمة الحضارية للمنجزات البشرية (ما نسجته البشرية، وأبدعته سراب في سراب)؛ بهذه المغالطة يأخذنا الشاعر إلى البراح الرعوي ليصل بنا إلى المطلق، وإلى الله الذي بمعرفته تكشفت الطريق وأمن الحي في الظلام العميق الذي تحدق من ورائه عيون القدر.
ويعود منير مزيد في قصيدته "القصيدة وأنا " إلى الرعوية من باب "الكلمة المقدسة" التي تخبئ في رحمها طريقا إلى الله، وهو في هذه القصيدة يرسم صورة شعرية فنية مبدعة، حيث تخرج الأحلام من رحم القصيدة حاملة من ظلها نوراً وكأن القصيدة نور في نور حتى ظلالها من نور وهو يؤكد دلالة العمق المعرفي الذي هو التنوير، تلك الدلالة التي طرحها الشاعر في جل قصائده، هذه القصيدة ترعى الحياة وتسهر تغازل الليل والقمر وتغني على قيثارة البحر وتنادي على الله ليطلق عالما رعويا يتشكل من النجوم وفراشات الحب وعصافير الغناء، ثم تغفو القصيدة بسلام مطمئنة بين الشاعر وبين الله.
وفي قصيدته "آياتُ الله"، يعود منير مزيد النمط الرعوي الذي استخدمه من قبل في عدة قصائد ، فالنمط الرعوي هنا حاضر بكثافة حيث الرعي والفراشات والضوء والرفرفة الحرة والسماء والغوص والشمس وتدفق الماء والثرى وإنبات السنابل والعصافير الظامئة للانعتاق من أسرها والشدو فوق شجر الحرية؛ وآيات الله أو معجزاته التي تتحقق في ثنايا القصيدة هي أبرز وجوداً في النمط الرعوي، حيث البراح المفتوح والدلالات غير المغلقة.
استخدم الشاعر جملة من الاستعارات والصور الجزئية ببراعة شديدة، جعلتنا نتوقف عند الماء المتدفق فوق تراب الصمت، فينبت سنابل الثورة والحب فينا ، والعصافير المتطلعة للانعتاق والطيران تغني على أشجار الحرية ، آيات الله التي يعلم بها البشر.
هذه الصور ذات أبعاد فنية مكتملة، وذات أيديولوجية خاصة تأخذ التلقي إلى النمط الرعوي البهي، في قصائد منير مزيد مؤكدة على البعد الغنائي في ثقافة الشاعر مزيد في مقابل البعد الملحمي والبنية الموضوعية في ثقافة ميكيلي كاكمو، هذا البعدان تظهر مفرداتهما واضحة عند الشاعرين، كل بحسب اتجاهه وجذوره الثقافية.
ميكيلي كاكمو في قصيدته "المساواة العادلة"، يجعل المساواة العادلة هي الفيصل الحقيقي الحاسم لإنقاذ البشرية، حيث هي الهدى الواضح في مرحلتنا الراهنة، هدى لا نضل بعده أبداً، والشاعر ميكيلي كاكمو يُصَعِّد من أهمية المساواة العادلة لحد يجعل منها المحك الحقيقي للوجود:
لهذا إما أن نموت
أو نطهر وجودنا
قمة الصراع الذاتي بين التحقق أو الفناء، إنها مفترق الطريق بين الحياة والموت، الحياة التي تعني تطهير الوجود من الظلم والجور والعدوان بمعنى المساواة العادلة، والموت الذي يعني عدم الفاعلية والضلال والغي والانصياع وراء متاهة العنصرية، والتعصب والتفريق بين الناس، ويستخدم ميكيلي كاكمو أسلوب التصوير، قرب نهاية القصيدة، حيث يعرض ملامح صورة شعرية فنية مترتبة على نيل المغفرة الكبرى التي هي الخلاص، مفرداتها سماء الحواريين وتنزل الشعر والتوبة ليصل في ختام القصيدة إلى الكشف، أو الإدراك حسبما سماه: ( سندرك .......... الهروب المقدس الحقيقي )، وهو هنا أيضا يؤكد بهذه المفردات التي تستحضر المملكة السماوية قربه من الثقافة الملحمية في مقابل الثقافة الغنائية عند منير مزيد.
لقد كون منير مزيد لنفسه عالماً مدخله الكلمة المقدسة التي يتوسل بها ليصل إلى المعرفة التي هي طريقه إلى الله والسماء، لذلك تسبغ هذه الكلمة ملامحها وأبعادها على ألفاظه المعجمية، فتهبها حياة مختلفة وروحاً جديدة، يستهل مزيد قصيدته يمام الشعر بعبارة (حبيبتي)، وهي صيغة نداء عادية قد تستحضر أجواء المناجاة والحي والوصل في جل سياقاتها عند معظم الشعراء؛ لكنها عند منير مزيد تحملنا إلى فضاءات أكثر سموا وتفتح نافذة على أجوائها المقدسة فتستحضر هنا روح نشيد الإنشاد من الكتاب المقدس فيجعل ليمام قصائده هديلا مقدسا جديرا بالخطو منتشيا فوق سقف أحلام الملائكة، طموحاً إلى الحرية التي أظنها في هذه القصيدة الرغبة في الامتزاج مع المقدس الذي يهبه حياة مغايرة عن تلك الحياة المكبلة بقيود بشرية لا تسمو به ..
إنها الصيغة الوجدانية للعاطفة، التي تقدمها القصيدة الغنائية، وتقابلها الصيغة المعدنية في قصيدة "جهاز حديدي"، عند ميكيلي كاكمو، الذي تظل تيمة السلطة والقوة والسطوة لها وجودها الملحوظ عنده، هنا يعبر عن آلة الحرب بالجهاز الحديدي، وهو الوسيط الذي يصنع منه طريقا إلى السماوات وإلى الإله الأعلى، والقصيدة ذات بنية ضمنية أتخيلها أنا على نحو شخصي، فهي تطرح تعبيرها عن عالم الفدائيين الذي يرسمه الشاعر من خلال تصوير نفسي لروح الفدائي الذي يتخذ من قتل نفسه حياة جديدة، لفكرته وهدفه وتحقيق ذاتيته التي تنتظره في تساميها عند مقام الإله الأعلى، لكن تظل القصيدة تعبر عن الشاعر نفسه كما تعبر عن موضوعها المقترح.
تلك الصيغة المعدنية يكررها كاكمو في قصيدته "أتخذ القرار" حيث يعيدنا إلى "جهاز حديدي" وهو وجه من أوجه النفسية المتعالية أو الإحساس بالقوة والسلطة اللذين استمدهما الشاعر من النمط الملحمي في المعالجة؛ فهنا يستخدم تعبير "جبال من حديد"، كما استخدم من قبل تعبير "جهاز حديدي".
والشاعر يصور محاولة السيطرة على الحروب بمعناها المجرد، بأنها محاولة يقوم بها من وصفهم بأنهم "رجال إطفاء البراكين"، ولعل في هذا الوصف إشارة إلى مدى خطورة الدور والمواجهة وقوة الصراع الذي ربما يصل إلى حد المستحيل حماية للبشر ومحاصرة للشر في عناقيده، وربما نجد أن لفظة عناقيد ذات دلالة إزاحية تشير من طرف خفي إلى القنبلة العنقودية أو تستحضر الحالة بالقرينة اللفظية.
المقدس المكاني والمعرفي:
المكان المقدس : إذا كان منير مزيد قد طرح فطرة الكلمة المقدسة فها هو ذا ميكيلي كاكمو يطرح الشق الآخر للقداسة على الأرض إنه المكان، فقد أنزل الله الكلمة مقدسة وربط بينها وبين أماكن مقدسة بأعيانها، الحال عينها في كل الأديان السماوية وربما الأديان الأيديولوجية الأخرى، وهنا يضع ميكيلي المكان المقدس إلى جانب الكلمة المقدسة التي طرحها منير مزيد على التجربة المشتركة بينهما.
لقد نقل كاكمو البعد المكاني في قصيدته المكان المقدس من براح الطبيعة في استهلال القصيدة، إلى عيني الله في نهاية القصيدة؛ المكان الأول هو المكان المقدس الحاسم الذي تحميه الملائكة، والذي يعد خلاصا من الأماكن المحدقة فيها الشرور والخطايا، أما المكان الآخر فهو عيني الرب حين نتعلق بالنظر إليه عندما نحتضر، وكأنه التعلق بالبحث عن الخلاص فيهما، البحث عن المكان المقدس الحاسم الذي تحميه الملائكة من أجلنا، وهنا تدوير دلالي شديد البراعة والأهمية، يرد خاتمة القصيدة إلى مطلعها من جديد وكأن الناتج الدلالي يجسد دورة الحياة الإنسانية المتعلقة بالانطلاق صوب المكان المقدس.
قال ميكيلي في المكان المقدس: من الخطأ الإيمان بالرؤيا؛ وأنا أرى أنه لم يكن موفقا في استخدام لفظ خطأ هنا ولا أقبله في الشعر مطلقا، فليس هناك خطأ أو صواب في الفن، وهنا يقطع الشاعر بيقينية السلب، وهو ما يحوّل الشعر عن طبيعته الوجدانية إلى طبيعة معرفية، لا يعرفها ..، ولا يهنأ في نطاقها، كما توقفت أيضا عند عبارة في رحم الله، وأتصور أنه تعبير سيء جدا، فلو قال مثلا في يد الله أو في روح الله أتصور أنه سيكون أفضل.
في قصيدته "الحزن العاري" فيكتشف منير مزيد أيسر الطرق أو الطريق الوحيدة التي يمكن للمرء أن يصل بوساطتها إلى مملكة اللاهوت متخلصا من ناسوته، إنها طريق الحزن ويكرس قصيدته الحزن العاري للتأكيد على هذه الفكرة، حيث الحزن هنا قوة، هروب من الضعف الإنساني وليس وقوعا فيه أو توقفاً عنده، لأنه قوة حقيقية ومرتبة لا يصل إليها إلا من قطع طريقا طويلا صوب الله، وقد جعل الشاعر للحزن قيمة مكانية عندما وصفه بالعري، الذي يحدد له كيانا ذا أبعاد، وهنا يلتقي منير مزيد مع ميكيلي كاكمو في قصيدة في هذا الموضع الآخر، الذي هو عند كاكمو المكان المقدس الحاسم في عين الله، الذي عرفه منير مزيد بعدد من الوسائل كشف عنها في قصائده في مقابل معرفة ضمنية غير واضحة الطريقة لدى كاكمو.
في قصيدته "في هذا الموضع الآخر" يستكمل ميكيلي كاكمو استكشاف مكانه المقدس بجسد حي لا تظهر عليه علامات التخلص من ناسوته، أو دلائل الموت الطيني، وفيه سيرى السيدة العذراء عليها السلا، التي يصفها بأنها أم فلسطين في صورة أسطورية تأخذ النصَّ إلى آفاق أرحب وأكبر عمقا من نحوين؛ حيث يجر النص أولاً إلى بعده السياسي من خلال تصريحه بأن السيدة العذراء عليها السلام أم فلسطين، وهي أم الدنيا، تأكيدا على موضع الولادة المقدسة، وإشارة إلى رثاء حالها والأسى على ما هي فيه اليوم، يعبث بها قاتلو المسيح من جديد، كما عبثوا بسيدنا عيسى عليه السلام من قبل.
ومن ناحية أخرى يأخذ النص إلى الميثيولوجيا، حيث تمتزج أم فلسطين (عليها السلام)، في الماضي بفلسطينها في الحاضر، ويصورها الشاعر في صورة أسطورية بأنها ذات نهود لا تعد ولا تحصى، بمعنى أنها قادرة على العطاء، على إشباع العالم، وغذاء الثدي ليس غذاء ماديا، فهو لا يقتصر على الإشباع المادي وحده، إنما يقدم كذلك الإشباع العاطفي من خلال حليب الحنان، لتعود فلسطين أما للعالم كما أن العذراء أم فلسطين، وهنا تمتزج الدلالتان وتتماهيان، فينتج عن هذا الاندماج والتماهي والامتزاج والالتحام المقدس إشعاع عذري لا يصل إلا إلى المؤمنين الخلصاء فيمنحهم المجد، إنه التخلص من كل شيء في سبيل الهدف المقدس، أو هو الحزن المقدس عند منير مزيد، وهنا يلتقي الشاعران ولكن من طرف خفي، في هذا المعنى الكبير.
هذه الاستعارة نفسها استمدها منير مزيد في عنوان قصيدته "نهد السماء"، وهي بنية ميثيولوجية، وهذا مؤشر آخر يومئ إلى تقارب الثقافات بين الشاعرين وكذلك المنطلق الصوغي، فالاستعارة نفسها استخدمها ميكيلي كاكمو في قصيدته (في هذا الموضع الآخر)، حيث صور السيدة المقدسة أم فلسطين بأن لها نهودا لا تعد ولا تحصى والنهد منبع رمزي للعطاء المادي والوجداني الذي تصل نعمته بأهلها إلى حد الإشباع، لكن كاكمو توقف عند حد الوصف الظاهري للسيدة المقدسة، بأنها ذات نهود لا تعد ولا تحصى بينما منير مزيد تجاوز الوصف المجرد إلى البحث عن العطاء، فجعل نهد السماء متدفقا بقطرات الرحيق التي يعدها بديلا دلاليا للقصائد التي تروي ظمأ الأرواح المتلهفة للحب، هذا التلاقي الاستعاري يحمل الحوار الثقافي (الوجداني) بين شاعرين / ثقافتين، إلى أجواء من التلاقي الموضوعي والإنساني، ويعد هدفا مميزا لصالح الحوار نفسه ، وإشارة جلية على تحقيقه مبتغاه.
كما استمد الشاعران هذا الرمز ضمنياً في قصيدتي "أغنيتي" لمنير مزيد، و"فجأة أتقاعد" لميكيلي كاكمو، حيث استخدم الشاعران دلالة التقطير، فكاكمو يقول:
رغوة القبر
قطرات زيت محمولة بالضوء
ويقول منير مزيد:
كلمات تهطل من الروح
وهذا الأمر يعد استحضارا لفكرة الغيث المتقاطر من غيوم الماء (نهود السماء)، التي تروي الأرض برفق فتعيد إلى المتقاعد فاعليته (عند كاكمو)، وإلى الحزين المتشرد أنسه بالله (عند مزيد).
وهو الأمر الذي يأخذنا إلى فكرة تخليق ميثيولوجيا النص عند الشاعرين، وهي فكرة برزت بوضوح عند منير مزيد من خلال أساطيري الخاصة، بوصفها تيمة مستقلة وموضوعة للنص، والتقى الشاعران في استخدامهما لطقس مثيولوجي موروث هو الشعلة المقدسة كما في قصيدته "السراج"، وأساطيري الخاصة، وقد أشرت إلى ذلك في موضعه.
المساندة الإنسانية للقضايا البشرية:
وقصيدة "أتخذ القرار" ذات فكرة مميزة، فيها صفاء صوغي على الرغم من قسوة المدلول الضمني والطرح موضوعي فيها. والقرار هنا هو التحرك إلى الفعل بدلا من الصمت واللامبالاة التي يلاقي بها العالم قضيتنا العربية الكبرى قضية الإنسانية جمعاء، قضية الصراع مع المستعمر الصهيوني في فلسطين العربية / الإنسانية.
تلك القضية التي لم يغفلها الحوار بين الشاعرين ، ولم تغفل عنها قصائدهما، فمنير مزيد، استطاع أن يقدم نموذجا وجدانيا شديد الحساسية والفنية تناول من خلاله قضيته الكبرى في قصيدته "حين تصهل القصيدة"، حيث جعل منها بؤرة تنوير تضيء كثيرا من معانيه الملحة في قصائد المجموعة وتشي بدلالاتها الخفية ويكشف من خلالها عن البعد الموضوعي الرئيس الذي ظل يلاحق نصوصه بالإيماء والإشارة والإيحاء والرمز، فصهيل القصيدة هو البنية التعبيرية الوجدانية البديلة، التي تقوم مقام غنائيتها وصوتها الحر كما أن الحزن المر سمة من سمات الشاعر وقصائده، تلك المعاني والإشارات التي لن يفهمها المتلقي لأنه لا يعرف معنى أن يكون منفيا مستلب الوطن مسروق التاريخ في منفاه حبيس عزلته، حيث لا أهل ولا وطن، يلفه الخواء، منفذه في غمرة هذا الحزن المر العميق على وطنه هو التطلع صوب السماء وطرق أبوابها إلى الله مستعيداً ذكرياته الأولى في وطنه، تلك الذكريات الحية التي لا تزول ثم ما يستتبعها من تذكر الرحيل إلى المنفى / العدم.
هذه القصيدة مؤثرة جدا وهي بكائية صاغها الشاعر بفنية عالية تصلح بعدها أن تكون نموذجاً للحزن على فقد الوطن والرثاء لحال المنفيين أمثاله، وهي في الوقت نفسه صرخة إلى أولئك الذين لا يدركون سبب صهيل القصيدة في مجرات الحزن المر، عسى أن يتحركوا لمحاولة فهم معنى النفي خارج الوطن والارتهان داخل العزلة والفراغ، إنها دعوة إشارية للالتفات إلى فلسطين الأم المنتهكة، أم السيدة مريم عليها السلام، وبراح السيد المسيح صلى الله عليه وسلم، وأرض العرب أو هي ابنة السيدة العذراء عليها السلام كما يرى ميكيلي كاكمو في قصيدته "في هذا الموضع الآخر"، وإن رآه موضعا بعيداً كما نفهم من لفظ "الآخر" الذي يعني اللا– هو.
وتستمر تلك النفسية الحزينة المشبعة بالأسى على فقد الوطن التي تكاد تسبغ طرفا كبيرا من قصائد منير مزيد، ففي قصيدته "أساطيري الخاصة" يستأنف جملة دلالية رأها جديرة بالاهتمام والعناية والتأكيد، وردت في نهاية قصيدته "حين تصهل القصيدة"، إنها الذكريات الباكية، حيث يستخرج منها أغنية أسبغت عليها رحيقها.
وقد كرس ميكيلي كاكمو قصيدة يتحدث فيها عن منير مزيد في مستواها الظاهر بينما هي مكرسة لطرح وجهة نظر ميكيلي كاكمو الفردية ووجهة نظره بوصفه سفيرا لثقافته وبيئته، فيتحول منير مزيد إلى موضوعة شعرية، يستخدمها ميكيلي قناعاً نموذجا يشير به إلى الإنسان العربي، فقصيدة "منير مزيد" قصيدة جريئة في موضوعها حيث يترك ميكيلي كاكمو الحديث في سياق الحوار عن الموضوعات المثارة التي تتعلق بالإيمان والنور بالمحبة وإزكاء روح التسامح والاتصال بين المملكتين الأرضية والسماوية؛
ويتجه مباشرة للحديث عن رفيق الحوار والباحث معه عن المحبة والتلاقي الإنساني بين البشر، والاتصال بين الأرض والسماء، فيجعل عنوان قصيدته "منير مزيد"، هكذا مباشرة مؤكداً أن مزيد صار موضوعة لقصيدته، ونصاً في شعره، وقناعاً رمزيا يستخدمه نموذجاًُ للإنسان العربي، ليجعل منه مدخلاً للإشادة بحركات التنوير الحديثة والإشارة إلى التاريخ القديم الذي يعرف أن للعرب فضلاً كبيرا على الحضارة المعرفية والتجريبية لدى البشر، من خلال علومهم ومعارفهم المدونة في المخطوطات التي تحفظها الحضارة الإنسانية في أي مكان.
لقد جعل كاكمو من منير مزيد بديلا موضوعيا ذا اتجاهين، الأول الاتجاه الرأسي التاريخي، والآخر الاتجاه الأفقي الذي يتحدث عن منير مزيد نفسه ، بوصفه علاقة إبدالية من مجتمعه وزمنه وثقافته:
..... منير حمامة ..،
لؤلؤة الله التي تهاجر
مثل الرغوة
أو الحديث عن السلالة التي تقترب مرة أخرى من الإشراق، وهي مهيأة لإرساء قواعد العدل والمساواة بين الناس.
محمد والمسيح:
ومن أهم نقاط الحوار وأكثرها إثارة النقطة الكبرى التي تناول فيها الشاعران الرمز العقدي الأكبر في ثقافتيهما في بعدها الديني محمد والمسيح عليهما السلام، وللمفارقة فإن منير مزيد كان الأقرب إلى موضوعه لأنه الأقرب إلى السيد المسيح عليه السلام، فهو ابن فلسطين وهو مسلم يعد الإيمان بالسيد المسيح جزء من عقيدته ، وربما لعدم توفر هذه الخصائص عند ميكيلي كاكمو جعل هناك فارقا صوغيا كبيرا بين القصيدتين محمد لكاكمو والمسيح لمنير مزيد
في قصيدته "محمد ... الرسالة"، يميل ميكيلي كاكمو إلى استخدام أسلوب التعالي Transcendently، ذلك الأسلوب تعلو نبرته جدا في قصيدتيه "سأنتظرك"، و"محمد... الرسالة" أو على نحو أخف ( نفسي بالأحرى ) في قصيدته "في هذا الموضع الآخر".
ثم يتواضع تماما للتجربة في قصيدته "المساواة العادلة"، وأرنا أرجع هذا التعالي إلى إحساس الشاعر بالمساندة السماوية التي عبر عنها في قصيدته "اخترقت كل حرب"، عندما يقول:
حين خرجت الملائكة ....
(..... )
ساندوني
لقد استهل الشاعر ميكيلي كاكمو قصيدته محمد بجملة ربما تكون صادمة للوهلة الأولى قبل اكتشاف إسنادها الدلالي إلى الله، لكنني كنت أتوقع من قصيدة عن محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته أن تكون وصفية كما فعل الشاعر نفسه في القسم الأخير من القصيدة، وربما مال الشاعر إلى الجانب الدرامي بفعل الأثر الملحمي في شعره.
لكنها من نحو آخر تبقى جملة مميزة للاستهلال الذي يأخذ التلقي إلى الانبهار بالطرح المضموني "سأدربك على الوصول للمنازل العليا للمغفرة" ؛ إنه إذن رسول بعث ليأخذ بأيدي الناس إلى معرفة الله ومغفرته ، لكن الشاعر في معرفيته كان أكثر مباشرة عندما تحدث عن مواعيد الصلاة كما حددتها السماء، تلك المستمدة من المدارات الشمسية، ثم يتحدث الشاعر عن الأخوة التي هي من أهم الأدوار التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معنى مميز لهذا الحوار أيضاً، يقول كاكمو على لسان الله مخاطبا محمد صلى الله عليه وسلم:
سأدربك على تقوى الله
لتكون رسول النور
لتعليم أبناء البشر
إنه يتهيأ لتعليمه الوصول إلى أعلى مراتب المغفرة أو يدربه على تقوى الله ليكون رسول النور.
أما منير مزيد في قصيدته "المسيح"، فهو حمامة تماما كما قال كاكمو في قصيدته عن منير، إنه حمامة سلام وتسامح، إنه واجهة مشرفة للحوار العربي الهادئ الحضاري الذي ينبذ العنف والتعصب، وإذا كان تعامل ميكيلي كاكمو مع شخصية محمد صلى الله عليه وسلم تعاملا امتصته نفسية التعالي؛ فإن منير مزيد يطرح درسا عميقا في التسامح من خلال قصيدته "المسيح"، وهو في هذه القصيدة أكثر عمقا وتجردا من كاكمو في قصيدته "محمد.. الرسالة"، ربما يرجع ذلك إلى أننا بوصفنا مسلمين نؤمن بالمسيح مثلما نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم دون تفريق بين أحد من رسل الله (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [القرآن الكريم سورة البقرة ، الآية 285].
ولم يكتف منير مزيد بهذا التجرد في الحديث عن السيد المسيح عليه السلام ، إنما بحث عن مواطن التقاء بارزة بينه وبين الإسلام؛ فنجد جملة مثل: "من حقي أن أحلم ومن حقكم ألا تؤمنوا"، تقابل الآية القرآنية الكريمة التي تقول: " { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }، ويستخدم منير مزيد الغنائية المميزة في صوغ قصيدته مستعينا بالاستعارات والصور التي تضع قصيدته في قالب جمالي خاص كما يستعين الشاعر بالتكرار الذي يلح على الدلالة الخاصة ويعمل على إبرازها من خلال تكرار جملة : "أنا المسيح"، ثم التسوية بين السيد المسيح وثلاثية الطريق والحق والحياة، مستحضراً جوا عقديا للتثليث : الآب / الطريق – الابن / الحق – الروح القدس / الحياة، وأسلوب التسوية من الأساليب التي تقارن بين الدلالات وتستبدل وتمزج وتصطفي وتعمق، ومن أنماط التسوية استخدام البديل الموضوعي؛ ويستوقفني في ثنيات قصيدة "المسيح"، استخدام منير مزيد الشعرَ بوصفه بديلا موضوعياً للصليب:
أتيت إليكم ومعي صليبي
أشعاري
فيفتح للدلالة آفاقاً جديدة، وتدفع المتلقي إلى تخيل المسيح مصلوباً في قصيدته، وما يَتْرَى من ظلال حول الصورتين عن المزج بينهما، إنها روح منير مزيد الخاصة المتفردة.
ويبدو لي من خلال قصيدتي "محمد الرسالة" لميكيلي كاكمو، و"المسيح" لمنير مزيد، مدى مخالطة منير مزيد لموضوعه ومحبته والامتزاج به للوصول إلى مقاصده الدلالية بروحه ووجدانه، على خلاف ميكيلي كاكمو الذي قدم قصيدة فيها استخدام مفرط للعقل، ربما هذه إحدى سمات الشاعرين ومنهجيهما بين الغنائية والملحمية.
ذلك التعالي ليس سلبيا مطلقاً إنما قد يكون إيجابيا عند توظيفه في موضعه من النص، مثلما فعل منير مزيد في قصيدته "الحزن العاري"، حيث استخدم تعبير "الحزن العاري" عنوانا لقصيدته، ليخلص الحزن بوصفه دلالة مجردة من أي ارتباط مضموني يمكن أن يجره إلى الأدنى، بعيدا عن تساميه المقدس؛ وهنا يصبح التعالي تسامياً؛ فالحزن مجرد عن فقد الاشتهاء، عن الحنين إلى الدنيا الزائلة، عن الألم والافتقار ..، إنه الحزن المجرد الذي يعتري صاحبه تجاه العالم وتجاه المقدس، لأنه كشف في صوفيته عن تهافت ( تفاهة ) الصراع البشري المقيت في الحياة الزائلة:
ما من أحد يسلك طريق السماء
إلا كان الحزن رفيقه
إنها عبارة تعكس تعاليا وحكمة فيها كنز الخبرة وتسامي الإدراك المثالي، وهي تجمع إلى جانب ذلك معرفة حقيقية بمجريات الأمور عند اللجوء إلى طريق السماء والحزن الرفيق هنا ليس حزن الألم أو الندم، إنما هو حزن الشفقة والأسى على أحوال اللاهين والطامعين في الدنيا الزائلة.
ويعد الحزن والوجع والغربة، من الظلال الرومانسية التي تلون القصائد عند منير مزيد بألوانها الخاصة؛ فهو في قصيدته "تراتيل الحب"، يعود إلى الطَرْق على الغنائية كاشفا عن وجهها الرومانسي الذي يحتفي بالحنين والحلم والحزن والألم والأوجاع والبكاء والغربة والفراق، وكذلك في قصيدته "أغنيتي"، يدوِّر الشاعر منير مزيد دلالاته الرئيسة التي تلف في محراب غنائيته ورومانسيته، حيث الأغاني والحزن والتشرد والمناجاة والأحلام والدموع والحكايا؛ كما يستأنف في قصيدته نزوعه إلى محاكاة نشيد الإنشاد.
الصورة الفنية:
ويستخدم الشاعر أسلوب الاستحضار بالصورة الشعرية من خلال ثلاث دوائر رئيسة؛ الدائرة الاستشرافية النفسية، ممثلة في الحلم ، والدائرة التنفيسية المعرفية وهي الشعر، ثم الدائرة العقدية المقدسة، إنها الدوائر التي تنداح حول الروح التي تستحضر الحبيبة من خلال ست حلقات مدورة تبدأ بالذات (الأنا) وتنتهي بها مرورا بالاشتهاء واللمس والشفاه والحبيبة: ( أشتهي لمس شفاه حبيبتي )، تلك العبارة التي تردنا إلى مطلع القصيدة حيث الحنين يلف الليل، والسماء تعانق الحلم، والحب يرتل حكايا الألم التي تشي باستحضار الحرمان والطموح إلى إشباع الحاجة النفسية لدى الشاعر، تلك التي كشف عنها في ختام القصيدة التي لم تكن هي الدلالة الهدف، إنما هي دلالة الوصول إلى الهدف، حيث ترسو الأيام في قارب الشعر بين أصابع الله على شواطئ المقدس التي يتمني الشاعر لو تشاركه فيوضاتها محبوبته، لتنعم معه ويتم بها نعيمه المقدس.
ويستخدم الشاعر التصوير في قصيدة "التجلي"، وهي قصيدة قصيرة جدا، ومضة شعرية شديدة الإحكام الدلالي والصوغي، وصولا إلى الدلالة الهدف، التي سلك الشاعر إليها طريقا باهرا، حيث صور الشاعر الموت وكأن الجدار الطيني للجسد ينهار، فيكشف عن خبيئة الروح المهيأة للخلود، وهو نص وارف الظلال متعدد الفيوضات الدلالية.
كما يستخدم كاكمو فنية الصورة في شعره، ففي قصيدته "إدراك الحدود"، يستخدم الشاعر الصورة الجزئية حيث ستتحول المغفرة الحادة إلى دائرة تشبه كرة اللؤلؤ ، وهي هنا ذات ظلال فنية مميزة تستمد طاقتها من تلك الحركية المتمثلة في التحول بين الأشكال من الحادي إلى الدائري ثم الكروي ...؛ ويعتمد كاكمو على التصوير في صياغة الناتج الدلالي لقصيدته "فجأة أتقاعد"، إذ يستخدم جانب المشترك الإنساني لموضوعه، حيث يتفق جل البشر على اختلاف ثقافاتهم وأساليب تفكيرهم في كون التقاعد اقتراب من النهاية، أو هو دخول إلى مرحلة الموات ، والشاعر يقر ذلك التفكير، ثم يعمل على تجاوزه من خلال ابتكار أساليب فنية ذات ضوغ جمالي حيث يسبغ على مرحلة الموت هذه سمةً ويجعل لها معنى ويهبها رائحة رومانسية، واستهلال القصيدة بالمفاجأة (فجأة أتقاعد)، يجسده الختام حيث يستخدم لفظ الحلزون الذي يشبه الدوائر المنداحة داخل الماء، فالمفاجأة إذن أشبه بإلقاء حجر في الماء سبب دوامات ناعمة من دوائر موجية صغيرة، وربما يتضمن معنى المفاجأة أيضاً الاستلاب، فالمعهود أن التقاعد مرحلة محسوبة بدقة يصل إليها الإنسان بعد سن معينة ، فلا مجال للمفاجأة إذن، إلا في حال الخطر ، وهو ما يؤكد دلالة الاستلاب.
وتتيح البنية الغنائية لدى الشاعر منير مزيد مجالا رحبا للتصوير الخيالي الرقراق، من خلال غنائية عالية ومحتشدة بالاستعارات، تلك التي يصوغ من خلالها صوراً جزئية مؤثرة :
" .... سماوات مطرزة بفراشات الحلم
ترقص أمام عيني ..
تسكرني حتى الهذيان ".
ويقول :
تقفز الروحُ إلى قلبِ القصيدةِ
أصعد إلى قمة الخلود
أشعل نار أساطيري الخاصة ..
وهنا يستعيد منير مزيد فكرة إشعال النار التي يستمدها من الأساطير الإغريقية القديمة كما في قصيدته السراج التي استخدم فيها عبارة "شعلة الإنسانية"، وهو يتلاقى هنا كثيرا مع هذه القصيدة "السراج" حيث يستخدم فيها تعبير "الحب نور السراج" ، وفي "أساطيري الخاصة" يستخدم تعبيرا ختاميا مميزا : "تغزل ..... أثواباً يرتديها الحب أوقات الصلاة" ، وهنا يُحقق الهدف من الحوار الثقافي الشعري بينه وبين كاكمو الذي عبر عنه كاكمو في قصيدته "المساواة العادلة: بقوله : "كلا الإيمان والنور هدفنا".
المعرفية والتحديدية:
"إدراك الحدود" لكاكمو قصيدة تعزف على التيمتين المعرفية والتحديدية أيضاً، وهو الأمر الذي يعيدنا إلى الكلمة المقدسة عند منير مزيد والمكان المقدس عند ميكيلي كاكمو، تلك الحدود التي يطرح كاكمو فكرة إدراكها هنا هي حدود الأشياء التي في أعلاها الحرية، إنه يبحث عن قانون ينظم به تلك الحريات حتى لا تتماهى ولا يطغى بعضها على بعض، فإذا بلغنا هذه الدرجة ستتحول المغفرة الحادة إلى دائرة تشبه كرة اللؤلؤ.
أما منير مزيد فيعتني في طروحاته بالمعرفية لأنها الأنسب للقصيدة الغنائية من التحديدية، فيتناص مع نفسه حيث يستعيد من "الكلمة المقدسة" معنى التعرف إلى الله بوسيط المعرفة:
بأحزاني
بتأملاتي عرفت الله
الحب وسر الكلمة
بمعنى أنه عرفه بالحزن اللازم لكل من يسلك طريق السماء، وهو درجة من درجات الزهد والتصوف والتأملات التي يستعان بها للوصول إلى الشفافية والكشف المقدس، وهو بعد فلسفي مطرد في شعر منير مزيد، وعرفه أيضاً بالحب وبسر الكلمة، كما أنه من قبل في الكلمة المقدسة وجد الله في الشعر:
حين بحثت عنك وجدتك
وجدتك في الشعر
بين قدسية الكلمات تشع نورا
يستخدم منير مزيد في قصيدته "الحزن العاري" الفنية المشتركة بينه وبين ميكيلي كاكمو، لكنها عند منبر مزيد أشد اتساعا حيث تتحرك بين السماء والأرض بين الأشياء والوجود بين الطبيعة والحياة، ففي عبارته أوجاع البرد والهجير، تقابل وجداني، إذ يمثل البرد افتقاد دفء المودة والهجير يمثل بعد الأحبة، وهي دلالة من دلالات كثيرة ينفتح عليها النص.
ومن بين الفنيات المهمة التي احتفى بها شعر ميكيلي كاكمو استخدامه للمعادلات الموضوعية، ففي قصيدته "سيكون لنا الصمت" يميل إلى استخدام تلك المعادلات الموضوعية سواء الصريحة بالإبدال، أم الضمنية بالدلالة، في "سيكون لنا الصمت" يستخدم الصمت بوصفه معادلا موضوعياً للحياة الأبدية في السماء، حيث يجتاز حياته إلى بداية السماء والحياة الأبدية بعبوره من الكلمة الأخيرة، والكلمة الأخيرة عند ميكيلي هنا تقابل الكلمة المقدسة عند منير مزيد كما أن الشاعرين يلتقيان في صورة الصمت بينهما، والذي هو ربما يكون صمتا مقدسا.
ختاماً:
وفي الختام أورد عددا من الملاحظات الأيديولوجية التي مرت بي في تحليل القصائد، منها:
* منير مزيد كان مرتبطا بالأصول الإسلامية في الحوار الذي يحترم فيه الطرف الآخر، مقراً مبدأ إسلاميا مهما حول المساواة بين بيني البشر "الناس سواسية"، أي لا تفاضل بينهم إلا على أساس أعمالهم وما يقدمه كل إنسان لربه وللمجتمع الإنساني.
* نادى منير مزيد بشاعرية أنيقة، دون تسطيح أو مباشرة، بصيحته دعما لإنقاذ فلسطين من يد اليهود الغاصبين، فأعادنا إلى ذلك النزوع العنصرري الصهيوني منذ حركة المكابيين مرورا بحركات باركوخيا وموزس الكريتي ودافيد روبين وتلميذه سولومون مولوخ ومنشا بن إسرائيل وشبتاي ليفي ونابليون الذي حرض السنهدرين عام 1806م على احتلال الشرق العربي، وهنا تبرز أهم حلقة من حلقات التعاون الغربي مع الصهيونية الاستعمارية، التي نرجو أن يكون هذا الحوار الثقافي بين ميكيلي كاكمو ومنير مزيد لبنة في بناء حائط صد ضد هذه الأطماع وشاشة عرض تستقطب إلى فنونها الصور الحقيقية الصادقة التي تقصي التاريخ المزيف المتوارث عبر أجيال اليهود.
* في قصيدته المساواة العادلة ، دعوة مادية تلغي من طرف خفي العدل في المجتمع ، فنحن من خلال أيديولوجيتنا لا ندعو للمساواة العادلة بل ندعو إلى العدل مباشرة، وهو الذي يسوي بين الناس جميعا.
* منير مزيد في "يمام الشعر"، وكاكمو في "إدراك الحدود" طرحا ما يمكن فهمه بالبحث عن الحرية الفردية للذات في المجتمع، وأنا أكاد أختلف معهما في ذلك الطرح حيث إن الحرية الفردية دعوة إلى إفناء الفرد في المجتمع، وهي فكرة قامت بين يدي الفكر الماركسي اللينيني، ونحن ندعو إلى الحرية الفردية المستقلة المرتبطة بنظام الملكية الخاصة، أو سيادة الفرد على نفسه كما أقرها الإسلام.
* إن هذه القصائد رحلة ممتعة في زورق الشعر، استطاعت أن تعبر فضاءات من الممتعة الوجدانية ووهبتنا آفاقا من المعرفة والشحنة الدينية المميزة التي تربط بيننا وبين السماء، واخترقت بنا قوس قزح فعبرنا ألوانه لوناً لوناً، لكننا اجتزناها بألوانها البهية وألوانها الأقل بهاءً، لأنها قصائد تغترف من واقع حقيقي ..
إننا نشعر أخيراً أن الحوار الثقافي الشعري من خلال قصائد النور، بين منير مزيد وميكيلي كاكمو، قد حقق الهدف الذي عبر عنه كاكمو في قصيدته "المساواة العادلة"، بقوله: "كلا الإيمان والنور هدفنا"، فشكرا للشاعرين الكبيرين ولما أضاءاه من نور بهي باهر .
المراجع
faculty.psau.edu.sa
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع