الغربة وأنينها، هذه المرحلة التي يتجرع مرارتها الإنسان رغما عنه ، ربما في بعض الأحيان برغبته، يقضيها خارج أسوار بلده ويكتوي بلهيبها، لمستها شاخصة في القصة القصيرة جدا ( كائن عادي ) للقاص المبدع شينوار إبراهيم.
 تدور فكرة القصة حول مفهوم الاغتراب والهجرة عن الوطن، حيث يعاني الإنسان المغترب من الوحدة والعزلة وعدم القدرة على التعايش والانصهار الروحي بهذا المجتمع الجديد، وذلك لأسباب عديدة، منها فارق الثقافات بين الشعوب والمجتمعات، اختلاف اللغة المتداولة بين المجتمعات، تباين العادات والتقاليد، ولا ننس الجذور الأيديولوجية المساهمة في بناء الأواصر بين أفراد المجتمع الواحد .
 يستهل بطل القصة الحديث عن التعريف بمكانه الذي يعيش فيه قائلا :
( فِي مَدِيْنَةٍ مَا ؛ أَسْكُنُ فِي شَارِعِ بَتُهُوَفِن , عمارةِ رَقِم 73، الطابق 45 ... في غُرْفَةٍ صَغِيْرَةٍ . تحتوي على حَمَامٍ .. ومَطْبَخٍ ... وسَرِيْرٍ وَطَاوِلَةٍ ... عَفْوَاً نَسَيْتُ أَنْ أَذْكُرَ فِي زَاوِيَةِ الْغُرْفَةِ يُوْجَدُ الْهَاتِفُ الذي أجهلُ رنينهُ ...)
 نلحظ ومن المفردة الأولى التي شرع بها مقدمة قصته قائلا: ( في مدينة ما ... ) أن الكاتب لم يحدد مدينة محددة إنما قد جعلها مفردة شاملة عامة وكأنه لا يريد أن ينكفئ على بقعة جغرافية معينة، بل أراد أن تأخذ قصته بعدا عالميا شاملا. يستغرب البطل عدم قدرته على الانصهار في بوتقة العالم الجديد، فيبدأ بطرح أسئلة تدور في مخيلته وتلح على ذهنه المشبع بالغربة والعزلة والوحدة، وراح يبحث في علل القطيعة بعد أن نسى رنين الهاتف وعدم تعرفه للوجوه التي تشاطره السكن في العمارة 73 والطابق رقم 45 ( لا أعرفُ مَنْ يقيمَ معي في نفسِ المكانِ .... أَتَجَوَّلُ على الأرصفةِ كَتائِهٍ مشردِ الأفكارِ ... مُتْعَبِ الهواجسِ... لم لا يُكَلِّمْنِي , ولَا يَنْظُرُ فِي وَجْهِي أَحَدٌ .... ضَجِيْجُ الْسَّيَّارَاتِ ... ألأَحَادِيثُ....الْفَرَحُ و الْسَعَادَةُ...أَلاضْوَاءُ .. الْبَشَرُ... لَا أَفْهَمُ كلَّ ذلكَ. فِي الْمَسَاءِ أقفُ أمامَ الْمِرْآَةِ ... انْظُرُ إلى وَجْهِي ... رُبَّمَا يبدو شَكْلِيَ غريبا ... لا يفهمني أحدٌ ... هل تبدو لغتي غيرَ مفهومةٍ؟ ام أَنِنّي أَصَمٌّ؟ ... لَم الْتَقِ زَائِرَا... هَل أنا مَوْجُوْدٌ؟.... ).
وأخذ يتفلسف ويذكرنا بفلسفة رينيه ديكارت ( أنا أفكر إذا أنا موجود ) وكأن القاص بدأ يشك بوجوده كباقي الناس، ونلحظ انه أصر على أن يكون عنوان القصة هو ( كائن عادي ) وكأنه يوجه صرخة للناس ويخبرهم بأنه كائن موجود يعيش معهم فلما الجفاء والعزلة والقطيعة ؟!
نلحظ عدم مبالاة هذه المجتمعات رغم انفتاحها، وإنها تتوجس الخوف والقلق من الوافد الغريب، لذا وبعد أن أصيب بطلنا باليأس من الاندكاك بهذا المجتمع، حاول أن يتوحد وان يطرق باب جديد للخروج والاتحاد مع عالم مثالي خالي من النكد واليأس والبؤس، نطالع:

 

(فِي غُرْفَتِي لَا أُحِبُّ الْسَّتَائِرَ ... وتَظَلُّ الْنَّافِذَةُ مَفْتُوْحَةً حَتَّى تَزُوْرَنِي على الْأَقَلِّ الْشَّمْسُ ... والرِّيَحُ ... والْمَطَرُ ...... ).
 هنا ينقلنا القاص من عالم الكائنات البشرية إلى عالم اكبر وأسمى وأبهى ... الا وهو عالم الطبيعة الكبير جدا، عالم أشعة الشمس والرياح والأمطار ... انه عالم الله المثالي ...
 ان القاص في هذه الرائعة يوجه دعوة للتأمل والتفكر في محيطنا وبيئتنا ومحاولة لفهم أنفسنا ثم الاندماج والتوحد مع باقي مكونات المجتمع، ان القاص يعيب انغلاق المجتمع على ذاته. وهذا يتمثل بالعلاقات الجليدية التي يعاني منها الغرب.
لقد أجاد القاص شينوار إبراهيم بأسلوبه الممتع سرد قصته، وقد اختزلها بكلمات قصيرة لكنها تحمل معاني كبيرة جدا ...

المراجع

almothaqaf.com

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  ملاحم شعرية