لأول مرة؛ يخرج للنور ديوان الشاعر/ شكري مصطفى!
هذا الديوان الذي يعد بمثابة وثيقة تاريخية مهمة، تؤرخ لحقبة دموية في تاريخ الصراع الفكري بين الحركات الإسلامية الراديكالية من جانب، وبين الأنظمة البوليسية من جانب آخر!
تحية للشاعر الأديب/ ياسر غريب- الذي نجح في انتشال هذا الديوان من غياهب النسيان، واستخراجه إلى الهواء الطلق. كما نجح ياسر غريب -مرة أخرى- في التقديم للديوان كما ينبغي أن يكون التقديم لمثل هذا العمل الأدبي المنفرد؛ فجاءت المقدمة كقطعة أدبية تكاد تذهب بالأبصار! قريبة جداً من أساليب الأدباء النوابغ، وبعيدة جداً جداً من "الكناسة" التي يفرزها الأكاديميون، والأدعياء، وغيرهم من المتسكعين على أرصفة الأدب!
يقول ياسر غريب عند تقديمه للديوان الصادر عن مكتبة مدبولي الصغير بالقاهرة: "لم يكن غريباً أن يتداول كثير من الناس طوال ثلاثين عاماً مخطوطة هذا الديوان وقصائده، فالإحساس بأن اقتناء (كراسة مخطوطة) تحتوي على قصائد ممنوعة لشاعرٍ يمتلك أسوأ سمعة فكرية في القرن العشرين؛ كفيل بأن يُغري هواة جمع النوادر باقتنائه، فضلاً عمن تأثر بأفكاره، فلم تكن القيمة الفنية للديوان الذي بين أيدينا هي وحدها التي تغري بتداوله. فلكم نُسِجَتْ حول صاحب هذا الديوان الكثير من الحكايات التي اختلطت فيها الحقائق بالأباطيل، وكان للهوى والغرض والخيال دور كبير في التأريخ لحياة الشاعر، وتدوين سيرته الذاتية القاسية التي انتهت فصولها بإعدامه في نهاية السبعينات من القرن الماضي".
* * *
الحق أقول: إنني كتبتُ شيئاً يسيراً عن الشاعر شكري مصطفى، في كتاب "شعراء في مواجهة الطغيان" فقارنتُ بين معارضته الشعرية الموسومة بـ(رسالة في ليلة النصر) والتي استهلها بقوله:
أبتاه لاحَ الشطُّ للربان وبدا الأمان لقلبه الولهان
وقارنتُ بينها وبين قصيدة (رسالة في ليلة التنفيذ) المنسوبة للشاعر/ هاشم الرفاعي- التي مطلعها:
أبتاه ماذا قد يخط بناني والحبل والجلاد منتظران؟
وأوضحت مدى نجاح صاحب "رسالة في ليلة النصر" في بلوغ ما بلغه صاحب "رسالة في ليلة التنفيذ" من التأثير في القارئ أوْ المستمع، ومن ثمَّ تعاطف الرأي العام مع قضيته!
* * *
لا جرم إنَّ من يقرأ أوْ يستمع لقصيدة (رسالة في ليلة النصر) لشكري مصطفى؛ سرعان ما تستحضر ذاكرته قصيدة (رسالة في ليلة التنفيذ) وما هي إلاَّ معارضة لها، ليس في الوزن والقافية فحسب، بلْ حتى في الغرض والمضمون والرسالة التي حملتها إلى القارئ، وصاحب (رسالة في ليلة النصر) كان ولهاناً بقصيدة (رسالة في ليلة التنفيذ) فتأثّر بها كثيراً، فاستلهم كثيراً من الألفاظ والمصطلحات والصور والمعاني.
لكن هناك فوارق كثيرة بين القصيدتيْن أوْ بين الشاعريْن، سواء في شخصية كل منهما وطبيعته النفسية، أوْ في ثقافة كل منهما وقدرته على التعبير، أوْ على المستوى الفني في القصيدتيْن، أوْ في مدى التأثير والانتشار لكل من القصيدتيْن .. ومن ثمَّ النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه القصيدة أوْ تلك!
- قصيدة (رسالة في ليلة التنفيذ) تتغلغل فيها الجوانب الإنسانية في أدق معانيها، فهي لسان حال أيّ سجين، في أيّ زمان وأيّ مكان. أمّا قصيدة (رسالة في ليلة النصر) فتتدفق في جنباتها النزعة الدينية في أسمى درجاتها-أوْ بمعنى آخر- يطغى عليها الجانب "الأيديولوجي" كأشعار الخوارج والشيعة وذوي الانتماءات الدينية والعقدية الصرفة.
- يُشتمُّ من نفسية صاحب (رسالة في ليلة التنفيذ) أنه كان أكثر تسامحاً وغفراناً مع خصومه وسجّانيه، بلْ نراه يتلمّس لهم الأعذار، رغم الصورة القاتمة والموحشة التي رسمها لزنزانته وكأنها في قعر الجحيم. بينما نجد صاحب (رسالة في ليلة النصر) أكثر حنقاً وغيظاً من خصومه، مما جعله يرميهم بأقذع الألفاظ وأشنع الصفات، رغم الصورة الوردية التي رسمها لزنزانته، أوْ كما وصفها بأنها روضة!
- نونية (رسالة في ليلة التنفيذ) تعدّ صورة من صور الصراع الاجتماعي المحتدم بين الظالم والمظلوم، بينما تحوّل الصراع في "نونية" صاحبه إلى صراع عقدي، بين الكفر والإيمان.
- صورة "السجين" في (رسالة في ليلة التنفيذ) يبدو في غاية الذعر والرهبة والاضطراب من لحظة الإعدام، خاصة عندما يتذكر الصبا والشباب ونداء أمه والأماني العِذَاب. أمّا (شكري) فكانت تملؤه الطمأنينة والسكينة، بلْ كان في غاية الشوق والترقّب للحظة الخلاص، لأنه سيصل إلى بر الأمان، ومرفأ السلامة!
- (رسالة في ليلة التنفيذ) ألقتْ الرعب في نفس قارئها، وأصابتْ الجماهير بالذعر، والهزيمة النفسية، وهذا من شأنه يقلل من فرص الجهاد، أو المواجهة مع الطغاة. أمّا قصيدة (شكري) فهي بمثابة دعوة للجهاد والمُضي قُدُماً نحو تحرير الإنسان من الخنوع والاستعباد.
- نجح صاحب (رسالة في ليلة التنفيذ) بامتياز في الوصف ورسم الصور البيانية. لكن (شكري) جانبه الصواب عندما حَمَّل قصيدته بالفكر والمضامين العقائدية على حساب الفن.
- أثر البيئة الذي يتمثل في "الريف المصري" يتجلّى واضحاً في (رسالة في ليلة التنفيذ) مثل: بائع اللبن الذي يترنّم بالألحان، وصورة الأُم اللاهثة في طلب "بنت الحلال" لفلذة كبدها. على حين تختفي هذه الملامح في (قصيدة شكري). فمن السهل أن تكون قصيدته لسان حال أحد المعتقلين في سجون العراق أو سوريا أو غير ذلك.
- صاحب (رسالة في ليلة التنفيذ) مملوء بالفزع والرعب والقلق الشديد والتوجس والوحشة والآلام التي تحاصره وذكريات الماضي .. كل تلك الرؤى حبستْ أنفاس القارئ مما جعله يتعاطف معه مهما كانت جنايته. في حين نجد مبالغة (شكري) في مناوأته لخصومه، وإسرافه في التحدّي، ورباطة الجأش، أفقده جانباً كبيراً من تعاطف القارئ معه، لأن التعاطف غالباً ما يكون مع الضعيف أكثر منه مع القوي، حتى وإنْ كان الاثنان في ذات المحنة.
- تسلسل المواقف والأحداث في (رسالة في ليلة التنفيذ) جاء تسلسلاً درامياً، يصل بالقارئ إلى غايته دون عناء ذهني، رغم كل المشاهد والرؤى التي تخللت "النونية". بينما انفرط عقد نونية صاحبه، سواء في تقديم المشاهد أو تأخيرها، أو في الحوارية التي بينه وبين أبيه.
- امتازت (رسالة في ليلة التنفيذ) بتنوع المشاهد، واختلاف المناظر، وتباين الرؤى، والقفز عبر الزمان والمكان، واستحضار الشخصيات. بينما امتازت (رسالة في ليلة النصر) بشحذ الهِمَم، وعدم الاكتراث بالعواقب، والتحريض على مقاومة جيش البغي، وكأن الشاعر يلقي خطاباً لجنوده قبل بدء المعركة.
- (رسالة في ليلة التنفيذ) واضح فيها استلهام الفلسفة الحياتية، والقصص والحكايات الشعبية. بينما اتكأ (شكري) بقوة على التراث الإسلامي بتاريخه وثقافته الخصبة.
- (رسالة في ليلة التنفيذ) خلتْ من التكرار والغموض، فلا يوجد فيها السجع المتكلّف أو الألفاظ الغريبة. بينما تلعثم صاحبه في التعبير عن بعض المعاني التي كان يبحث عنها، كما أجبرته القافية على الإتيان بغريب الألفاظ أو ما يمكن أن نسميه "الألفاظ غير الشاعرية"!
ولعلنا نستطيع أن نوجز الفارق بين الشاعريْن .. فنقول: صاحب (رسالة في ليلة التنفيذ) كان ينحت في صخر. بينما كان (شكري مصطفى) يغرف من بحر!
الخلاصة؛ إنَّ الأفضلية في سائر "المعارضات الشعرية" دائماً تكون في صالح الأسبق أوْ صاحب براءة الاختراع! فقد فاق ابن زيدون شوقي في "النونية". وفاق البوصيري كل من جاءوا من بعده. لكن هذا لا ينفي أن يأتي الشاعر الذي قام بالمعارضة بالصور والمعاني والرؤى البديعة والفائقة الجمال .. وقد حدث بالفعل في قصيدة "رسالة في ليلة النصر" والتي كنا نتمنى أن يكون عنوانها (رسالة في ليلة الشهادة) لأنَّ الشاعر استُشهِد بالفعل، وكما هو متعارف عليه أن لقب النصر لمن عاش على قيد الحياة، ولقب الشهادة لمن مات. وإنْ كان "الشاعر" يرى أن موته –في حد ذاته– نصر له، أو كما قال: أنا في دمي نصري ..!
خلاصة الخلاصة؛ تحية للفلاح الأديب/ ياسر غريب- الذي تجرأ، وأصدر هذا الديوان، في عصر لمْ يبقَ فيه إلاَّ الجبناء، وأبناء الأنابيب، وأولاد الأفاعي، ونسل فاعلي الشر، وإخوانهم في "الرضاعة"!
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب