على زمان الكتاتيب، كان أحد الأساتذة، غير العرب، يعلم التلاميذ اللغة العربية، عن طريق ترجمة مقاطع من كتاب فقهي ، وقد ترجم لهم عبارة: « إذا وقعت الفأرة في السمن، فخرجت حيّة ، يبقى السمن حلالا» لكن استاذنا اختلطت عليه اللغة فترجم كلمة (حيّة) الى (ثعبان) بتلك اللغة . أحد التلاميذ الأذكياء لم يصدق الأمر فقال للمعلم:

- ياسيدي ..كيف دخلت فأرة الى السمن وخرجت ثعبانا؟.

فقال الأستاذ:

- أسكت أيها الفاسق ..إنها قدرة القادر.

أنا أشبه الكاتب الساخر بذلك الولد النبيه ، وأشبه قوى الشد العكسي بذلك الأستاذ الضعيف( ولا أنكر أن هنالك في كل مجتمع اساتذة أذكياء في ممارسة الشد العكسي) الذي يحاول تغطية ضعفه بقدرة القادر.

هذا الطفل النبيه هوالجد الأول للكاتب الساخر، بعد أن انتقل من مرحلة السؤال والدفاع، الى مرحلة الهجوم لتحرير مجتمعه من هكذا أساتذة ....إنه الناقد لنواقص مجتمعه الذي يتعرض دوما الى منظومة من آليات الدفاع والهجوم من قبل مجتمعه،وهذا أمر طبيعي جدا، لأن النقد هو تورط كامل في معركة الحياة، وانحياز الى جانب التغيير نحو الأفضل ...هذا الإنحياز يلاقي الكثير من المقاومة من قبل المستفيدين من الأوضاع الحالية للوطن.

حتى لو افترضنا أن الكاتب الناقد –السخرية أحد أساليب الناقد – يقوم بجلد شعبه وأمته، فإن

ما يسمونه جلدا للذات قد يكون تطهيرا لهذه الذات وتنشيطا لقواها الداخلية الحية، و(مساجا) للعضلات الروحية، المرتخية والمتشنجة معا.

من دون التشخيص الصحيح سيكون العلاج مجرد تسويف وتغطية، أو قتلا بطيئا، وجريمة منظمة تقترف بطيبة قلب. والتشخيص الصحيح والسليم يعني فيما يعني تفقد كافة أجزاء الجسم بكل دقة، والتأكد من سلامة الأعضاء ومعاينة تلك الأعضاء المريضة والمصابة، وتقديم تقرير كامل بحالة الجسد للطبيب المعالج، وهذا الشخيص بالطبع لا يحتمل المحاملة والتغطية على الدمامل بالمساحيق ، بل ينبغي تحديد احداثياتها بدقة، تمهيدا لفقئها وطرد قيحها ومعالجتها، قبل أن تتحول الى سرطانات سهلة الانتشار، وقاتلة .

أما الكاتب الساخر فهو مريض على الأغلب بالتمرد الدائم على الواقع المعيش، مريض بالتمرد على البداهات التقليدية ، مريض، يتأوه ويتنهد ويتعذب ، فتخرج أناته على شكل خليط سحري عجيب وفوضوي ...من السخرية والمرارة والمقاومة والعبث... والعدمية أحيانا.

مريض بالبحث عن آليات جديدة ومبتكرة لنقل المعادل الشعوري لمواقف الناس السياسية والاجتماعية والإنسانية.

مريض بالسعي الدائم والدائب والقلق من أجل التعبير السليم عن واقع يعيشه مع بقية الناس ،واقع لا يرونه ولا يقرؤونه في الجرائد الرسمية ولا في تصريحات وزراء الإعلام.

الكاتب الناقد مريض ..أعترف بذلك

لكنه طبيب أيضا .....طبيب لا يعالج ولا يشفي ، لكنه يشخص ويوثق لمجتمعه...يشخص عيوب السلطات أمام الناس ويفقع بالونات البروبوغندا ويبصق على الهالات المزيفة التي يضعها المستغِلون(بكسر الغين) حول أنفسهم.

وهو لا يكتفي بذلك ، بل يشخص أخطاء الناس ايضا وممارساتهم التي يصورها بشكل كريكاتيري يجعلهم يعون ممارساتهم المغلوطة ، لعلهم يفكرون اكثر اذا قرروا ممارستها مرة اخرى.

يشخص ممارسات الناس السلبية التي تضر بهم وبمصالحهم وتحتقر انسانيتهم ، وينتقدهم لأنهم لا يقاومون الفساد والخواء، ويضعون الحق على الآخرين ، في عملية إسقاط نفسي تسهم في تكريس الجهل والرعونة والتخلف الإرادي، وتترك الساحة خاوية للقامعين الذين (يتفرعنون) على الناس ما داموا- الناس- خانعين وقانعين وساكتين .

الساخر لا يحمل مفتاح الحل، ولا يعرف رمز الأقفال، ولا يجيد فتحها عن طريق الاستماع الى تكتكاتها أو نسفها في الديناميت، وإلا تحول الى فوضوي.

الكاتب الناقد هو ذات الطفل الذي رفض ترجمة (حيّة) الى ثعبان.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   مهند مبيضين   جريدة الدستور