على ذمة الملحمة المكتوبة على الألواح الطينية، التي اكتشفت في منتصف القرن الثامن عشر، فإن الملك السومري جلجامش كان مستبدا وظالما ، وقد بنى حول (اوروك) عاصمة بلاده سورا هائلا عن طريق إجبار الناس على العمل بالسخرة، وفي ظروف بالغة الصعوبة. ولم يكتف بذلك بل كان يجبر كل رجل ينوي الزواج على ان يرسل زوجته في ليلتها الأولى الى الفحل جلجامش ليقوم ب(الواجب).
كان الناس آنذاك يؤمنون بالآلهة المتعددة ، وقد اشتكوا الى احداها –اعتقد انها اورورا- فاستجابت لنواح اهل اوروك ، وخلقت (انكيدو) كائنا وحشيا وقويا يعيش في البرية ، وقد اشتكى اليه الأهالي ظلم جلجامش ، فطلب مبارزته حتى يردعه عن معاشرة نساء البلد رغما عنهن.
وبالقفز عن بعض التفاصيل، فقد اشتبك البطلان في معركة طاحنة ارتجت لها أرجاء الأرض ،لكن جلجامش ينتصر في النهاية .وبعدها يصبح انكيدو وجلجامش صديقين لا يفترقان ، وينطلقان في مغامرة ويقتلان حارس غابة الآلهة، فتغضب منهم إحداهن، وتعرض الأمر على الكبار، ويقرر مجمع الآلهة معاقبة جلجامش ، وبما ان (ابو الجلاجل) تسري في عروقه دماء الآلهة ، فقد قرروا قتل صديقه انكيدو عقابا له ..وهكذا، بكل بساطة ..مرض انكيدو ..ومات.
ما علينا
| كانت وفاة انكيدو أول مواجهة لجلجامش مع الموت ، فقرر أن يبحث عن الخلود لروحه الفانية. وقد علم أن هنالك رجلا وزوجته نجيا من الموت في الطوفان العظيم وصارا مخلدين .فاتجه اليهما في رحلة شاقة ،ليبحث عندهما عن سر الخلود.
المهم،تقابله احدى الآلهات – ربما تكون سيدوري- وتنصحة بالعودة والإستمتاع بما تبقى له من الحياة بالأكل والشرب وما الى ذلك من لذائذ الحياة ، لكن أخونا جلجامش العنيد يرفض ذلك ويستمر في رحلته.
يقابل جلجامش الرجل الخالد وزوجته – نسيت اسمه- ، فيطلب منه الأخير أن لا ينام لمدة ستة أيام وسبعة ليال ليحصل على الخلود، لكن جلجامش يغلبة النعاس ويفشل في إكمال المدة. فتحنو عليه زوجة الرجل الخالد وتخبره أن هناك عشبة في قاع بحر (دلمون) سوف تمنحه الخلود ان حصل عليها وأكلها.
ينزل ِجلجامش الى اعماق البحر ويحضر العشبة ، ويحملها معه في طريق العودة الى أوروك، وكان ينوي أن يجربها على آخرين قبل تناولها (على طريقة مصانع الأدوية حاليا) . في الطريق يتوقف للشرب ولقضاء حاجاته ، فتأتي الأفعى وتسرقها وتأكلها).
وهكذا يعود أخونا جلجامش الى بلاده خالي الوفاض ، لكنه عندما ينظر من بعيد الى السور المحيط بمدينته أوروك ، يدرك أن هذا السور هو الذي سيخلده لدى الأجيال القادمة.طبعا، اثبتت الأيام أن جلجامش كان مخطئا واندثر السور منذ قرون ولم يخلد حتى نفسه.
لكن ما خلد جلجامش هو (أو هي) الكلمة . ما خلد جلجامش كانت هذه الملحمة الرائعة التي عبرت القرون والسنون وانتصرت على صروف الدهر لتصل الينا ، ولولاها لكان جلجامش مجرد اسم عادي جدا مذكور في الألواح الطينية بكل حياد.
هذا هو سر الكلمة الذي لولاه لتحول جلجامش من رجل عظيم وصاحب ملحمة كبرى الى (ع الهامش)لا يعرف اسمه الا كبار علماء الاثار المتخصصين.
وعلى ذكر الهامش فإننا جميعا- عربا وعاربة ومستعربة- نعيش ولا نحيا على الهامش لأننا افتقدنا سر الكلمة وسحرها ، وتخلينا عن رحلتنا الملحمية في أتون الحياة، وانصعنا لنصيحة سيدوري ، وعدنا ناكل ونشرب ونشاهد التلفزيون والفيديو متكئين على الأرائك نائمين.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة مهند مبيضين جريدة الدستور
|