بالتأكيد ، فإن الكثيرين منكم تعرّض، وما يزال، لما أتعرض له كلما حصلت مسابقة عربية ما، سواء كانت مسابقة لإختيار شاعر المليون أو قاص البنطلون أو مسرحجي الدركسيون أومطرب المرمطون. إذ تنهال علينا الرسائل النصيّة والرسائل الأليكترونية التي تطالبنا بالتصويت – أو عمل اللايك على الأقل- لفلان بن الفلاني بن علان العلنتاني.

طبعا، تصل الرسائل من أحد المشتركين في المسابقة الذي ينتمي لقطرنا العربي أو لملتنا أو لقارتنا أو لأقرب خطوط الطول أو العرض لحارتنا، تطالبنا بدعمه والتصويت له ضد الآخرين من المنافسين ، دون أن نعرف مستواه الفني أو الأدبي، إنما نصوت له على العمياني ، وعلى الإسم فقط لا غير، حتى نشارك في رفع إسم بلدنا أو ملتنا أو حارتنا أو قارتنا أو مجموعتنا الشمسية أو مجلتنا فوق هامات الملل والنحل والقارات والمجرات الأخرى.

المشكلة، أن هذا المشترك يجد الدعم فعلا من الكثير من المجموعات الأقرب اليه ، ويصوتون له ويكررون التصويت مثنى وثلاث ورباع وخماس ، لأنه استفز عصبياتهم الأولى المتجذرة في تلافيف الدماغ،رغم ارتدائهم بذلات السان لوران وركوبهم افخم السيارات ، اذ لا يزال بدوي غزية يرقد بدواخلنا متحفزا لمشاركة في أول غزوة، حسب العربي القديم الذي قال متفاخرا:

وما أنا الا من غزيّة إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد

المشكلة الأكبر ، أن الطبيعة الغالبة على هذه المسابقات أن يفوز الأكثر استثارة للعصبيات المتنوعة كأسنان القرش، أو صاحب المنطقة الأكثر ثراء التي يستطيع أهلها أن يكرروا التصويت عشرات الاف المرات، الى أن يفوز (البيك)، ويستقطب أصواتا أكثرا أصواتا من الآخرين ، حتى لو انتمى صوته الى أنكر الأصوات إيقاعا وجرسا وموسيقى ومخيخا ونخاعات، ولا فرق إذا ما كان مطربا أو «مطرما»، شاعرا أم شعرورا.

المشكلة الأعظم، أننا نقبل ونتقبل هكذا أحكام، ونتعامل مع الفائز على أساس أنه الفائز فعلا وأصلا وفصلا، وتنهال عليه العروض التجارية ، وتحتفظ المراهقات بصوره على جدران عرف النوم، ويصير مثلا أعلى للكثيرين على امتداد هذا الوطن العربي النائم متمطيا بين قارتين. لا أحد يعترض ويتقبل جميع المتنافسين النتيجة ويكظمون غيظهم على أنفسهم لأنهم لم ييتيعوا تجميع تصويتات أكثر منهم.

المتنافسون الذين سقطوا في هذه المنافسة يشرعون في التحضير للمنافسة القادمة ، ولا أحد منهم يفكر في رفع سويّته الفنية أو الأديبة أو البطاطا المقلية، بل يشرع في توسيع دائرة معارفه وعلاقاته ،فيكتشف، مثلا، أن عائلته الأردنية تنتمي الى أحد أفخاذ قبائل تنتمي الى تميم ، لذلك يشرع في البحث عن صلات مع العشائر التي تنتمي الى تميم في فلسطيين ولبنان والعراق ودول الخليج والغرب العربي والأندلس وفي بلاد المهجر، ويبحث عن الطرق المناسبة للإتصال بهم واستثارة غرائزهم العشائرية قبل المسابقة بإسبوعين.

متسابق أكثر ذكاء يشرع في البحث عن تجمعات عشائرية كبرى، مثل قيس ويمن الذين استمرت معاركهم وحروبهم حتى منتصف العصر العثماني ، ويضم نفسه الى أحد هذين التجمعين الكبيرين ويشرع في استثارة هذه الكتلة البشرية العملاقة واستعادة كل تاريخ العداوات بين قيس ويمن، منذ معاوية بن ابي سفيان حتى قفزة فيلكس من الفضاء الخارجي.

لذلك لا تتعجب – عزيزي القارئ- أذا سمعت أو قرأت غدا أو بعد غد عن اشتباكات طاحنة بين قيس ويمن في منطقة عربية ما ، وأن هذه الإشتباكات امتدت وتسعت وانتشرت لتتحول الى معارك ومذابح على الهوية في جميع أرجاء الوطن العربي والمهجر، وهي ستكون مذابح عابرة للأديان والطبقات الإجتماعية والشرائح الإجتماعية، ولا تفرق بين مؤمن وملحد، حتى بالتقوى.

هذه هي النتيجة الطبيعية لهكذا تصويتات، وهكذا قبول اجتماعي لتفضيل أبن الأخ على إبن العم ،وتفضيل إبن العم على الغريب في مجال الفن والأدب والإبداع عامة، دون أدنى التفات الى المستوى الفني والإبداعي والتصويت على الهوية ، وممارسة قتل الآخرين رمزيا على الهوية بلا هوادة.

هكذا مجتمعات عصبية قاتلة للإبداع وللحرية الفكرية، وهكذا تجمعات بشرية تجعل من الأسطوري و البائد من نمط العلاقات الإجتماعية ممارسة يومية عادية بشكل مفرط، لا تستوقف أحدا بسخافتها..... هكذا مجتمعات تساهم في وأد نفسها في مقبرة التاريخ والجعرافيا.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   مهند مبيضين   جريدة الدستور