يقول تعالى:"وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لاأعذبنه عذابا شديدا،ولاأذبحنه،أولياتيني بسلطان مبين،فمكث غير بعيد،فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين،إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء،ولها عرش عظيم ، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ،ألا يسجدون لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون،الله لا إلاه إلا هو رب العرش العظيم"1
فالخبر من خلال الآية يعني النبأ، أي العلم بالشئ و الإحاطة به و نقله كتابة أو مشافهة، و يعرفه ابن منظور بقوله "الخبر بالتحريك واحد الخبر" و الخبر ما أتاك من نبأ عمن تستخبر، ابن سيده الخبر، النبأ و الجمع أخبار"[2]و في المعاجم و منها المعجم الوسيط نقف عند الخبر كقول يحتمل الصدق و الكذب لذاته ج أخبار"3
فالعلم بالشيء الخبر هو معرفة و في الآية هنا الخبريتسم بالغرابة " إني وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شيء و لها عرش عظيم" كما يتسم الخبر في الثرات العربي النثري بالهزل، كما نقرأه في نوادر و بخلاء الجاحظ وعند القاضي التنوخي و حين يتسم الخبر بالهزل، و يتكرر كسمة في الأخبار تتحول هذه السمةإلى مكون و يتحول الخبر مع هذا المكون إلى نادرة كجنس أدبي، يقول سعيد يقطين"إذا كان الخبر أصغر وحدة حكائية فإن الحكاية تراكم لمجموعة من الأخبار المتصلة"4 و هذا ما نكتشفه في حوار سليمان مع الهدهد و في سرد الهدهد للخبر، كمكون حكائي يجمع بين بلاغة الحجاج و بلاغة السرد أي بين الدفع بالمتلقي إلى التصديق بالخبر و بين التأثير فيه من أجل تثقيفه و الزيادة في معرفته و الدفع به إلى الإيمان بقدرة الله التي تتجلى في ملك سليمان ، يقول الدكتور الباحث محمد مِشبال " جوهر البلاغة تلازم التصوير و الحجاج" فإذا كانت بلاغة الشعر تعتمد التكثيف و الانزياحات و الغموض و الاقتصاد و الاختزال في اللغة كما يقول البحتري.
الشعر لمح تكفي إشارته
و ليس بالهدر طولت خطبه
فإن بلاغة القرآن و الأحاديث النبوية جاءت لترسم طريق لبلاغة نوعية مختلفة، و لأجناس و أنواع أدبية تجعل من السرد و الوصف و اللغة العارية و الشخصية و الفضاء أهم مكوناتها.
ففي صياغة الخبر" النظم" لقصة الهدهد و قصة سليمان كان الإمتاع و الإقناع و كان الإعجاز القرآني بذلك، و بالتالي عملت هذه البلاغة عبر مفهوم النظم الذي تناوله الجاحظ في كتاب مفقود له قيل في الأثر أنه كان معنونا ب "الإعجاز القرآني "و قد تناول هذا الإشكال في حديثه عن قضية اللفظ و المعنى و أشار إليه بحسن السبك و حسن التأليف، و حسن الصياغة، و أن المفاضلة بين الخاتم و خاتم ليس في معدنه الذي هومن ذهب و لكن في حسن الصياغة، فالجاحظ في كتاباته النوعية و تنظيراته البلاغية، رسم بداية الطريق ليس فقط لهذا المفهوم "النظم" عند عبد القاهر الجرجاني و كتابه "دلائل الإعجاز"و " أسرارالبلاغة" و عندالقاضي الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" وعندابن رشيق، وابن سنان الخفاجي، و الزمخشري و فخر الدين الرازي و السكاكي و يحيى ابن حمزة و حازم القرطجاني و كتابه القيم "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" وصولا إلى الفصل الذي يتناول فيه أدونيس في الجزء الثالث من "الثابت والمتحول" لمفهوم النظم عند الجرجاني . وعند الدكتور الباحث الأكاديمي محمد مشبال في كتابه القيم "البلاغة والسرد" فالجاحظ إذا رسم الطريق لمفهوم "النظم" الذي تحول إلى نظرية للنظم ورسم الطريق للسرد الواقعي الذي ستتلقفه المقامة بشكل خاص والرسالة" الحكاية "عند التوحيدي ووضع النواة بذلك لما سيستحدث من أجناس أدبية كجنس القصة بأنواعها وجنس الرواية الحديثة خاصة رواية اللارواية، وبالتالي أسس الجاحظ لبلاغة النثر و السردالعربي والعالمي ، فالجاحظ إذن عمل على توسيع و تخصيب أفق اشتغال البلاغة سواء تعلق الأمر بالتصنيف أو التبويب أو بالتفسير أو التأويل. يضع سعيد يقطين في تعريفه للخبر هذا المفهوم مفهوم الخبر إلى جانب أنواع أصلية أخرى كالحكاية و القصة و السيرة و النادرة، فالخبر نوع بسيط والحكاية نوع مركب، و الزمن في الخبر أفقي و في الحكاية أفقي و عمودي، و يرى محمد القاضي أن أهم ما يميزالخبر هو ارتكازه على الإسناد الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من استراتيجيتة، و ينزع إلى تغليب المشهد و القص الإفرادي و يقول " و سعينا إلى استشفاف نمط الرؤية من خلف و باطنا يغلب الرؤية المصاحبة"6
فأبرز خصائصه اعتماد السند، عدم الإمتداد في الزمن و المكان، التركيز على الحدث، التزام ترتيب محدد للبنية، بساطة الاسلوب.
و في كتاب "فجر الإسلام" لأحمد أمين نجد أول من ألف كتابا في الأخبار هو عبيد ابن بشرية الجرهمي، زمن معاوية بن أبي سفيان و بأمر منه، و في الأغاني للأصفهاني نجده يتناول الخبر كجنس أدبي و بمعرفة لأنواعه ووظيفته يقول الأصفهاني " ...ليكون القارئ باتنقاله من خبر إلى غيره و من قصة إلى سواها () أنشط لقراءته و أشهى لتصفح فنونه"7
كما يلح التنوخي صاحب "لطائف الأخبار" على ضرورة إخراج هذا الفن للمتلقي خشية ضياعه.
فما المقصدية المعرفية و الجمالية من توظيف الخبر داخل السرد ، و كيف يتحول الخبر من جنس أدبي مخصوص له مكوناته و سماته إلى جنس النادرة؟ و ما الغاية من استثمار مكون الهزل داخل النادرة؟
ففي"كتاب البلاغة و السرد "للباحث والناقد الأكاديمي المغربي محمد مشبال، يشير الباحث في مقدمة الكتاب إلى أن الموقف النقدي الذي يسعى الكتاب إلى بلورته يتمثل في النظر إلى الخبر باعتباره جنسا سرديا يتشكل في أنواع و أصناف، و يتحدد جنس النادرة بالحضور المتكرر لسمة الهزل و تحولها إلى مكون ثابت في مجموعة من الأخبار و بالتالي تستقل هذه الأخبار بذاتها في جنس النادرة ،باعتماد مكون السرد و الشخصية و الفضاء، و من سماتها قصر الحجم و الوظيفة الحجاجية و الواقعية، و اللغة النثرية العارية من البديع ، هذه النوادر نفسها حسب الباحث تنقسم إلى أنواع نوادر البخلاء و الظرفاء و الفساق و اللصوص و يقسم الباحث أخبار الجاحظ إلى نوعين ، أخبار تتسم بالغرابة و أخبار تتسم بالهزل و السخرية و تسمى بالنوادر، فالهزل { السخرية }ينقل الخبر من الطرافة التأريخ إلى فن السرد ،و الأحداث فيها إما وقعت و إما تحتمل الوقوع، كما أن شخصياتها مألوفة و عادية و كذلك الأزمنة و الأمكنة المرتبطة بها، فالجاحظ حسب الباحث اعتمد في صياغة نصوصه السردية على بلاغة المحتمل، و هي بلاغة ذات وظيفة حجاجية و أدبية في نفس الوقت كيف ذلك؟ .
فحضور الهزل كمكون في النادرة ليس للتسلية و المتعة و تزجية الوقت وإنما يأتي توظيفه كنوع من التخييل تبطن لغته بلاغة حجاجية ذات وظيفة تعليمية و تربوية ،و ذات رؤية فكرية وفلسفية، ففي الإمتاع يقول الباحث هناك الحجاج، و في الحجاج هناك التخييل، و بالعودة إلى كتابه {البلاغة و الأدب }السابق في إصداره عن كتابه هذا الذي بين أيدينا البلاغة و السرد نخلص أن سياق الحديث عن مفهوم البلاغة من النشأة إلى التطور و محنتها مع الدرس النقدي و البلاغي الفرنسي وعلاقة هذه البلاغة بالأدب و بالدرس النقدي العربي و الأوروبي إلى حدود تصورات و مفاهيم نظرية التلقي أو جمالية التلقي، جاء للتدليل على أهمية هذا المفهوم البلاغة كعلم و كآلية رصد وفهم و تفسير و تأويل للنصوص، و ما استأثر به من اهتمام و ما سال من أجله من مداد، بما يطرح من إشكالات في التناول ،هذا التناول النقدي البلاغي، بمنظور الباحث في الكتابين معا و هو يطرح نموذج أخبار الجاحظ و نوادره للدرس البلاغي، يطرحه بمعرفة لتاريخ هذا المفهوم ، و بإظهاره للقصور النظري والتطبيقي لدى الدرس النقدي و البلاغي القديم و الحديث.
كيف نتجاوز هذا القصور إذن؟
في كتاب{البلاغة و السرد} تجد الباحث يطرح نوادر الجاحظ كنماذج نوعية ومخصوصةللدرس البلاغي و النقدي وبشكل مختلف، يروم من وراءه القول باستحضار الدرس النقدي الحديث لنظرية التلقي أي العلاقة الجدلية التي تتفجر لحظة القراءة بين النص و المتلقي الدعوة إلى النظر إلى بلاغة النصوص في تلاحم مكوناتها الحجاجية والتخييلية وفي بعدها الوظيفي في علاقتها بالمتلقي، ففي نص وفاء الكلب للجاحظ لا تجور الوظيفة الحجاجية على الوظيفة التخييلية و العكس صحيح، هذا التلاحم يتضمن فعلا و هو مطالبة القارئ (المتلقي) بضرورة الإحسان إلى الحيوان و حسن الظن به و في نص عبد الله بن سوار و إلحاح الذباب يتمن فعلا يحرضه على اتخاذ موقف من شخصية عبد الله بن سوار المتكلفة و المغرورة و في نص آخر للجاحظ "علمه حيلة فوقع في أسرها" يعمل النص ضمنيا على إدانة شخصية المدين المسرفة في مسخ إنسانيتها لأغراض مادية.
و يعد التمثيل حسب الباحث أدل الوجوه البلاغية على تداخل التصوير و الحجاج في نوادر و أخبار الجاحظ و يستدل الباحث بالجرجاني في وصف الميزة الجمالية للتمثيلات حيث تشكل الحسية في التمثيل المبدأ في صياغة الصور البلاغية و تمنح السرد القدرة على توصيل المعنى لما للحسية من علاقة بالنفوس. يقول الباحث "هناك معرفة بواسطة الحواس تذكر الإنسان بأصوله الأولى عندما كان يعبر عن افكاره بالرسوم و الحركات و الرموز "8.
فالباحث يرى أن التعامل مع بلاغة النصوص بالإرتهان المطلق للخطاب التداولي على اعتبار أنها نصوص عارية عن أي قيمة جمالية أو العكس، او الاكتفاء فقط بحصر الدرس البلاغي و النقدي بتفسير و تأويل لحظة التلاقي أي تفسير ما يحدث أثناء القراءة كما يرى أمبرتو إيكو أو عبر سلسلة القراءة المتعاقبة كما يرى هانس روبرت ياوس، باعتبار القراءة تجربة جمالية تمكننا من القبض على أثر النص لا على دلالته، إن هذا التعامل (الفهم) يؤدي إلى طمس هوية النصوص و لوظيفتها الأدبية و بالتالي إفراغها من بلاغتها الحقيقية ،فبلاغة الجاحظ النثرية ينبغي قراءتها حسب الباحث الدكتورمحمد مشبال في وحدتها أي في ترابط المكونين الحجاجي و التخييلي ففي خبر الشيخ عروة بن.مرثد مع كلب حسبه لصا، نلاحظ السخرية من الشيخ عروة جاءت كمكون للتقليل من قيمة هذه الشخصية وادعائها الشجاعة والفتوة عبر إثارة الضحك منها و عدم التعاطف معها.
و في حكاية الشيخ أثناء رحلته على ظهر سفينة مملوءة بالبقلاء كيف انقلبت سعادة الشيخ لقلة معرفته بنوع و سلبية هذا البقلاء إلى تعاسة فالخبر حسب الباحث كجنس نثري يتفرع عنه جنس النادرة في علاقته بالمتلقي ينقسم إلى نوعين، أخبار تحتمل التأويل وأخبار لا تحتمل التأويل فالأخبار التي تحتمل التأويل يشكل فيها الحيوان سمة بلاغية أو مكونا تخييليا يوجه السلوك و يعدله و بالتالي تعمل النوادر على تأسيس أخلاق سامية في المجتمع.
فأخبار الجاحظ حسب الباحث تعمل على تثبيت العقيدة و تقديم المعرفة و تهذيب الأخلاق و إمتاع القارئ فالحيوان في كتاب الجاحظ "الحيوان" سمة بلاغية تدل على خالق و مخلوق، أي ما يطلق عليه الجاحظ النصبة او بالحالة الدالة.
و في نص "وفاء الكلب" الحمام الطائر الذي يطعم الحمام المقصوص الجناح نجد نوع آخر و فهم آخر للمعرفة و هو المعرفة بالإلهام.
ما يخلص إليه الباحث و يكرره عبر فصول الكتاب "البلاغة و السرد" أن بلاغة الجاحظ ليست مجرد قواعد لبناء حياة الناس في المجتمع عبر متعة السرد و هي الخلاصة التي يتبناها عبد الفتاح كليطو صاحب كتاب "الأدب و الغرابة" حين أشار إلى أن مفهومي الإبتداع و المحاكاة لا يقتصران على مجال الكتابة بل يجريان أيضا على مجال حياة الأشخاص و من نماذج القراءات التي زاوجت في مقاربتها لآثار الجاحظ بين البعدين التخييلي و التداولي و نظرت إلى تعدد أنماطها الخطابية و تنوعها يذكر الباحث قراءة شوقي ضيف في كتابه "الفن و مذاهبه في النثر العربي" حيث صنف نصوص الجاحظ في ما اصطلح عليه بالقصص و الاحتجاج، القصص يضم النصوص السردية التي تقوم على أحداث و أفعال، و الاحتجاج يضم النصوص التي تقوم على الأقوال و الأحاديث.
ثم هناك تصنيف آخر لحافظ الرقيق يضيف قسما آخر إلى هذين القسمين اللذين ذكرنا وهي نصوص يتداخل فيها الحجاج السردي والتخييلي، كما اعتمدت فدوى مالطي دوجلا تصنيفا على أساس مفهوم الوظائف المستعار من المنهج الوظيفي البنيوي لفلادمير بروب حيث أظهر تحليلها وجود أنساق مورفولوجية متكررة نادرة الشيء نادرة الكرم، نادرة البخيل الضمنية نادرة الأداة الضحية نادرة الجماعة، نادرة الوعظ و هناك تصنيف آخر اقترحه توفيق بكار اعتمد فيه شقا يقوم على أربعة مبادئ و هي الجمع و المنع و التفويت والإستدراك وهناك تصنيف أخر أفترضه محمد مصفار ، اعتمد فيه معيار طبيعه العلاقة التي تربط الكاتب بشخصياته، أما عبد الفتاح كليطو فقد اعتمد تصنيفا استقاه و نادرة معتمة أما صاع بن رمضان فيرى أن كتاب البخلاء مصنف أدبي يضم أجناسا خطابية مختلفة الملحة الخاطفة، النادرة المكتملة ، النادرةة التي تتضمن رسالة ، الرسالة المستقلة مقاطع و صفية تصور نمادج هامشية ، فقرات في الحديث عن صنوق الأطعمة ، كما أشار صاع بن رمضان إلى أن التدخل بين مواد أدبية متنوعة يشكل سمة في تكوين بلاغة الرسالة الأدبية عند الجاحظ .
فالجاحظ بنظر الباحث محمد مشبال نقل الخبرمن الوظيفة التواصلية العملية إلى الوضيفة التواصلية الأدبية.
الهوامش :
1- الأية من 19 إلى 26 من سورة النمل ، القرآن الكريم
2- "لسان العرب" تحقيق محمد عبد الوهاب ، محمد الصادق العبيدي، دار إحياء الثرات العربي 1999 ج 4 ص 12
3- الكلام و الخبر "(مقدمة للسرد العربي)" المركز التقافي العربي المغرب 1997 ص 195
5- "البلاغة و الأدب"
من ضور اللغة إلى صور الخطاب
6- " الخبر في الأدب العربي دراسة في السردية العربية" ص 406
7- كتاب " الأغاني" دار الكتب بيروت 1992
8- "البلاغة و السرد " منشورات جامعة عبد الملك السعدي .
المراجع
tellskuf.com
التصانيف
مصطلحات دينية أدب