مِنَ الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرت مسرى الأمثال، قولهم: "العرب أمة شاعرة". وكذلك قولهم: "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.
***
عزيزي القارئ: بدأنا مسيرتنا في ديوان الشعر العربي هذه المرة، وليس في ذهننا موضوع معين نحاول أن نلتقط من ديوان العرب ما نظمه الشعراء فيه، فما راعنا ـ ونحن على أول عتبة من عتاب الديوان، إلا رجل شيخٌ نحيل، يبكي بكاءً مرًّا إلى رسم حمار في رِقٍّ بيده، وأخذ ينشد بصوت متحشرج حزين:
عـزيـزٌ علينا أن يغيبك القبر
تموت وما كحلت عينيك بالمنى
أقـولُ وفي نفسي الكسيرة كربة
ولو صح أن تفدي فديتك طائعًا
ولـيـسَ لنا إلا البكاءُ أو الصبرُ
وما نلت حبا من أتان هي البدرُ
"كذا فليجل الخطبُ وليفْدح الأمرْ
وقلتُ فداك المالُ والنعمُ الحمر"
سألناه: عجبًا: من أ،ت يا رجل؟ وماذا تفعل هنا؟
ـ أنا أبو الأنوار السجستاني، أبكي حماري الذي وسدته الترابَ اليوم.
ـ أمجنون أنت يا رجل؟ أيرثي شاعرٌ حمارًا؟
ـ وقطًا، أو كلبًا، أو عنزًا، أو ديكًا.. ولو واصلتم السير في ديوان العرب لوجدتم في رثاء الطير، والحيوان الكثير والكثير.
***
وصدق الرجل ـ يا عزيزي القارئ ـ فبعد خطوات قليلة. نلتقي بأبي نُواس الحسنِ بنِ هانئ، يبكي كلبه "خلابا"، ويقص علينا قصة مصرعِه بأنياب حيةٍ غادرةٍ رقشاء. يقول الشاعر:
يـا بـؤس كلبي سيد الكلاب
يا عينُ جودي لي علي خلاَّبِ
خـرجـتُ والدنيا إلى تبابِ
فـبـينما نحنُ به في الغابِ
رقـشـاء جرداء من الثياب
فـخر وانصاعت بلا ارتيابِ
قـد كـان أغناني عن العقابِ
مـن لـلظباء العفر والذئاب؟
بــه وكـان عـدتي. ونابي
إذا بـرزتْ كـالـحةُ الأنيابِ
لـم تـرع لي حقا، ولم تُحابِي
كـأنـمــا تنفخ من جرابِ
***
ونلتقي بأحد الشعراء، وهو في هم عميق، فقد رشَق صبيان قطه الأثير حتى قتلاه، وكان يسمى قطه "الخناق"؛ لأنه كان للفئران والثعابين في منزله بالمرصاد. فقال راثيًّا مهددًا قاتلي قطه:
قضى الخناقُ يا لهفي عليهِ ألا ما شد حاجتنا إليه
يروع فأرها ، ويقط أفعى سأثار عاجلا من قاتليه
***
وأولى من ذلك بكثير رثاءُ الشاعرِ أبي الحسن التهامِّي لقطة الذي سقط في بئر عميقة ومات، يقول الشاعر التهامي:
ولما طوالك البينُ، واجتاحكَ الردَى
ولـو كنتُ أدرى أنَّ بئرا تغولني
ولـكـن أيـدي الحادثات بمرصد
فـهـل نـافعي أني رثيتك بعدما
بـكـيناكَ ما لم نبْكِ يوما على قط
بـمـثواكَ فيها لاحتبستك بالربط
إذا أرسـلـت سـهم المنيةِ لم تحط
رأيـتـك توفي لي، وتحكم بالقسطِ
وإذا كان القط قد حظى بحطظ وافر من الرثاء، فإن الشاعر القاسمَ بن يوسفَ لم ينْس أن يرثي هرته التي كان هو الجيرانُ يحبونها، ويأنسون إليها. يقول الشاعر:
يـقـولون كانت لنا هرةٌ
وكـنـا بصحبتها حامديـ
فـعنَّ لها عارضٌ للردى
مـربـيـة عـنـدنا تالده
ـن، وكان بصحبتنا حامدنْ
فـأمـسـت بتربتها هامدة
وللقاسم بن يوسف كذلك قصيدةٌ طريفةٌ يرثي فيها عنزهُ السوداء التي وافتها منيتها فجأة، وهي قصيدة لم تَخْلُ من طوابع غزلية. ونقتطف من هذه القصيدة الأبيات التالية:
عـيـن بـكى لعنزنا السوداء
أذن سـبـطـة، وخـد أسـيلٌ
أصبحت في الثرى رهينة رمس
كيف لي بالعزاء، لا كيف عنها
كـيـف يرجو البقاءَ سكانُ دارٍ
كـالـعروسِ الأدماء يوم الجلاءِ
وابـتـسـامٌ عن واضحات نقاءِ
وثـنـاهـا حـي لدى الأحياءِ
سـلـبتني السوداء حسن العزاء
خـلـق الله أهـلا لـلـفـناءِ
***
ونرى لأبي بكر العلافِ قصيدة في "رثاء هر" كما نقرأ في العصر الحديث قصيدة للعقاد في رثاءِ كلبه الذي كان يسميه "بيجو" وحتى لا تضيق بنا الجولةُ في ديوان العرب، نقفُ لدقائقَ أمام ما قاله بعضهم من رثاءٍ في الطيور، فالأصفهاني يقول في"ديكهِ الذي سماه (أبا النذير).
خطبٌ طرقتُ به أمر طروق
فـكأنما نوبُ الزمانِ محيطةٌ
ذهبت بكل مصاحبٍ ومؤانس
حـتى بديكٍ كنت آلفُ قربة
فـظ الحلولِ على غير شفيق
بـي راصداتٌ لي بكل طريقِ
ومـوافـقٍ ومرافقٍ وصديق
حـسن إلى من الديوك رشيق
ثم يلتفت الأصفهاني إلى ديكه "أبي النذير" فيوجه إليه حديثه الباكي ويقول:
لـهفي عليكَ أبا النذير لو انه
أبكى إذا أبصرتُ ربقك موحشًا
ويـزيدني جزعًا لفقدكَ صادحٌ
صبرًا لفقدك لا قلى لك بل كما
لا تـبـعـدن وإن نأتك منيةٌ
دفـع الـمنايا عنك لهف شفيق
بـتـحـنـن وتأسف وشهيق
فـي منزل داني المحل لصيق
صـبـر الأسير لشدة ومضيق
فـي مـنزلٍ نائي الحل سحيق
***
وقبل أن نتركك في أمانِ الله أن نشيرَ إلى أنَّ هذا الغرضَ الشعري، ينم على عاطفة إنسانية بمفهومها الشاملِ عند الشاعر العربي، ولا عجب، فالرحمة في ديننا تتسع للحيوان كما تتسع للإنسان.
وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أن يتخذ المسلمون الحيوانَ الحيَّ هدفًا للتدريب على رمي السهام. وهو القائل "في كل كبدٍ حَرَّى أجْر" وهو القائل "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتتْ جوعًا، فلا هي أطعمتْها، ولا هي تركتها تأكلُ من خَشَاشِ الأرض" أي من حشراتها.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع