وحدَهُ الدكتور عزمي بشارة من بين كلِّ البشرِ ينفردُ بقانونٍ يخصُّهُ فقط، سنَّه، قبل أَيام، البرلمانُ الإسرائيلي (الكنيست)، بغرضِ حرمانِهِ من راتب تقاعدِيٍّ له، لعدم مثولِه أَمام القضاءِ، بعدَ اتهامِهِ بالتجسّس لحزبِ الله في 2006 وانتهاكِ قانونِ مكافحة تبييضِ الأَموال. ونظنُّها من أَعجبِ الغرائِبِ التي لا يمكنُ تصوُّرُ حدوثِها في دولةٍ طبيعية، أَنْ يُفصِّلَ عنصريون مقيتون في البرلمانِ المذكور مشروعَ قانون، ثم يتمكنّوا من تمريرِه قانوناً بعد قراءاتٍ ثلاث، ضدَّ شخصٍ واحدٍ في العالم، وينصُّ على مصادرةِ الراتبِ التقاعديِّ لأَيِّ عضوٍ في الكنيست متهمٍ ب «العلاقةِ مع جهاتٍ معادية، ومطلوب للتحقيقِ الإسرائيلي ولا يمثلُ أَمامه»، وصَوَّتت عليه أَحزابُ الائتلافِ الحاكم والمعارضة. ودلَّ اقتراحُ مشروعِ القانون من نوابٍ من الطرفين على الإجماع الواسعِ في المجتمعِ الإسرائيلي ونخبِهِ على استهدافِ الفلسطينيين، سكانِ البلادِ الأَصليين، بأَبشعِ السياساتِ العنصرية.

معلومٌ أَنَّ رئيسَ حزب التجمعِ الديمقراطيِّ عزمي بشارة استقالَ من عضويةِ الكنيست فورَ خروجِهِ من فلسطين، عقبَ الاتهام المزعومِ عن تقديمِهِ معلوماتٍ عسكريةٍ لحزبِ الله مقابل مئاتِ آلافِ الدولارات (). وكانَ واضحاً أَن تدبيراً يتمُّ طبخُه ضد الرجلِ لحبسِه، بعد نزعِ كلِّ اعتبارٍ سياسيٍّ له، وهو المثقفُ العربيُّ الذي برزَ فاعلاً سياسياً ووطنياً في فلسطين المحتلة 1948، وأَطلقَ شعارَه الديمقراطيَّ أَنْ تكونَ إسرائيلُ «دولةً لكلِّ مواطنيها». وكان قد رشَّحَ نفسَه، مرَّةً، لرئاسةِ حكومةِ إِسرائيل، قبل انسحابِه، في بادرةٍ هَدَفت إِلى إِحداثِ ارتجاجٍ في الجمهور الإسرائيلي. ولأَِنَّ إِعلاميين ومثقفين عرباً شرَّقَوا وغرَّبوا كثيراً، بشأْنِ خروجِه من وطنِه بعد افتضاحِ نيّةِ إِسرائيل محاكمتَه وسجنَه بذريعةِ تلك الفريةِ المضحكة، يصيرُ الأَجدى التملي جيداً في الحضورِ الوطنيِّ والثقافيِّ اللافت الذي أَصبحَ له في العالمِ العربي، ليس فقط في إطلالاتِه الرائقةِ على شاشة «الجزيرة»، بل أَيضاً في مساهماتٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ له في غيرِ بلدٍ عربي، وفي الإيجابيةِ المؤكدَّةِ لهذا كله، بدلَ التلهي بالتحزيرِ ما إِذا كان ينبغي أَن تكون أَولويةُ عزمي بشارة أَن يصيرَ ضحيَّةً في سجنٍ إسرائيلي، أَم صاحبَ دورٍ في تنويرِ الرأْي العام العربي باجتهاداتهِ بشأْن مستجدّات العرب والعالم. وفضلاً عن انحيازِهِ إِلى غيرِ خيارِ بطولةِ الضحيّة، يرى كاتبُ هذه السطور أَنَّ أَهميةَ أَفكار بشارة في ما تُثيرُهُ من نقاشٍ وإِعمالٍ للذهنِ بشأْنها، وليس في تبنّيها كيفما اتفق.

لم ينْسَهُ زعرانُ الكنيست، إِذنْ، بعد أَربعِ سنواتٍ على مكوثِهِ في «منفًى اضطراري»، ما يعني أَنَّ شهوةَ الانتقامِ لديهم منه شديدة، لِما ظلَّ يُحدِثُهُ من تهشيمٍ في المنظورِ المهيمنِ في الدولةِ العبرية، ولما أَقامَهُ من تواصلٍ بين بني جلدتِهِ والمحيطِ العربي، وهو الذي كان يضعُ صورةَ جمال عبد الناصر في مكتبِه إِبانَ كان نائباً في البرلمان الإسرائيلي. ولأَنَّه استطاعَ حمايةَ نفسِهِ من تدبيرِهم ضدَّه، ابتكروا قانوناً يستهدفُه، لمصادرةِ حقوقٍ ماليةٍ له، ما يتناقضُ مع بديهيّةِ أَنَّ مدخراتِ التقاعدِ ملكٌ شخصيٌّ للعاملِ أَو الموظفِ أَو المستخدَم، وليس لربِّ العمل، ولو كانَ الحكومة، أَنْ يمسَّه. تُطيحُ إِسرائيلُ بهذه المسلّمة، وتخترعُ صيغةً عجيبةً في التشريعِ في البرلمانات، ليُمَثلَ القانونُ الرديء انكشافاً جديداً لها، وهي التي يُعدُّ عزمي بشارة من أَبرز من زادوا معرفتَنا، نخباً ومجتمعاتٍ عربيّةً، بها، حماهُ اللهُ.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   محمود الزيودي   جريدة الدستور