هناك، في لبنان، رجلٌ محترمٌ اسمه سليم الحص، يستحقٌّ، دائماً، أَنْ يُسْتَمَعَ إِليه، وأَنْ يُهتدى برؤيتِه، ويُسترْشَدَ بالبوصلةِ الوطنيةِ الحقَّة التي تُوجِّه خياراتِه وقناعاتِه. يحسُنُ دائماً، في زوابع لبنان وتأَزماتِه السياسية أَنْ نعرفَ ما يراه في أَثنائِها، وأَنْ نُنْصِت إِلى ما يقولُه بشأْنِها. مناسبةُ التذكير بهذه البديهيَّة، كما يعتبرها كاتب هذه السطور، إِشهارُ الدكتور الحص، مجدداً، تكذيبَه أُزعومَةَ الديمقراطية في لبنان، وكان قبل سنوات، قد قالَها، رؤيةً سديدةً تماماً، وهي أَنَّ قليلاً من الديمقراطية وكثيراً من الحرية في لبنان. تعقيباً على قول الرئيس ميشال سليمان إِنَّ لبنان يُطبِّق ديمقراطيةً فريدةً ونموذجيةً في العالم، هي الديمقراطية التوافقية، يقول الحص إِنَّ لبنان يفتقرُ حتى إِلى الحدِّ الأَدنى من الممارسةِ الديمقراطيةِ الصحيحة، وإِنَّ للديمقراطيةِ علاماتٍ فارقة، إِنْ وُجِدت كانت هناك ديمقراطية، وإِنْ لم توجد فلا ديمقراطيةَ حقيقيةَ في البلاد، أَهمها اثنتان: التمثيل الصحيحُ للشعب في الحكم، ووجودُ آلياتٍ فاعلةٍ للمساءَلةِ والمحاسبة، وكلتاهما غيرُ متوفرتيْن في لبنان على وجهٍ فاعل.
يشرح سليم الحص، وهو رجلُ دولةٍ من طرازٍ راق، فكرتَه هذه، المهمُّ فيها أَنَّها تكشِطُ المساحيقَ الثقيلةَ على الإِشاعةِ المهيمنةِ منذ زمن، وهي أَنَّ لبنان البلدُ العربيُّ الوحيد الذي يرفلُ بالديمقراطية، لأَنَّ في وسعِ أَيٍّ كان هناك أَنْ يقولَ ما يشاءُ عن أَيٍّ كان. وللحق، فإنَّ هذا البلد ينعمُ بحرياتٍ عامةٍ واسعة، منها حريةُ الإِعلام والصحافة، غير أَنَّ الديمقراطيةَ شأْنٌ آخر، لأَنها ممارسةٌ تتصلُ ببُنيانِ الدولةِ والنظامِ السياسيِّ فيها، وهذان مخرومان، لا بالطائفية فحسب، بل أَيضاً بسطوةِ زعاماتِ الطوائف، وبالفسادِ واستخدامِ المال السياسي، فضلاً عن أَنَّ إِجماعاً وطنياً على مفهوم الدولة ووظائِفها لم يتحقَّق بعد. وفي أَثناءِ هذا كله، يقولُ ميشال سليمان ما يقولُه عن فرادة الديمقراطية في بلده، ويقول سلفُه إِميل لحود إِنَّ ما يُزعجُ إِسرائيل من لبنان أَنَّ الديمقراطية فيه أَفضلُ الديمقراطيات في العالم، وإِبّان خصومتِه مع سوريا، كان وليد جنبلاط يقول إِنَّها تستهدفُ لبنان، لأَنَّه النموذجُ الديمقراطيُّ الوحيد في المنطقةِ العربية.
يُدلِّل على بُؤسِ الديمقراطيةِ اللبنانية، المُتباهى بها، أَنَّ نحو مائةٍ وعشرين يوماً مضت على تكليفِ نجيب ميقاتي تشكيلَ حكومةِ الأَكثرية النيابية التي استجدَّت بقدرةِ قادر (؟)، بعد أَنْ ثبت بندولُ وليد جنبلاط في غيرِ المطرحِ الذي كان فيه، وبعد أَن ارتضى ميقاتي خروجاً ملغزاً من المجموعةِ التي نجح على لوائِحها في الانتخابات النيابية. ولأَنَّ متابعتَنا المستجدات المصرية والليبية واليمنية، ثم السورية، لم يكن ممكناً أَنْ نقطعَها بالالتفاتِ إِلى مداولات الزعامات اللبنانية، أَو خراريفها ربما، بشأْن تشكيل الحكومة، فإِنَّ تفاصيلَ ضاعت في الأَثناء، من غيرِ أَنْ نفقدَ الجوهريِّ في المشهد، وموجزُه أَنَّ مماحكاتٍ شديدةَ الرداءَة يُواصل خوضَها زعيم التيار الوطني الحر، النائب ميشيل عون، بشأْن الوزاراتِ التي يراها حصَّته، الداخلية تحديداً.
العجيبُ أَنَّ معارضي تكتل حزب الله وعون وحركة أَمل استنكفوا عن المشاركةِ في الحكومة، وآثروا ضِفَّة المعارضة، ما كان يعني في أَلف باء الديمقراطية أَنْ تتشكَّل الحكومة في نهارين، لكن الأَمر لم يكن ممكناً على هذا الحال، فالقصَّة في مطرحٍ آخر، إِنها، بالضبط، في نقصانِ منسوب الديمقراطيةِ في البلد، وهذا جوهرُ أُطروحةِ سليم الحص الثمينة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور