يظنُّ الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أَنَّ شرعيةَ رئاستِه بلادَه ما زالت متحققة، طالما أَنَّه قادرٌ، في مواجهة مناوئيه، على جمعِ عشرات الآلاف في كل يوم جمعةٍ يهتفون له، وطالما أَنَّ آلافاً يتظاهرون، ويحضّونه على عدم توقيع مبادرة التنحّي الخليجية. يَفترض أَنَّ اليمنيين المطالبين بتنحّيه ليسوا في الشوارعِ والساحاتِ أَقلَّ عدداً من المتمسكين به، ولذلك، لا يجد نفسَه مضطراً إِلى تلبية مطلب أُولئك وعدم تلبية مطلب هؤلاء. المشكلة أن صالح في تشخيصه هذا لا يسأَلُ نفسَه إِنْ كان، حقاً، قادراً على ممارسةِ الحكم والسلطةِ في أَثناء هذا الحال، وهو الذي يُغالب منذ سنوات تأَزماتٍ أَمنيةٍ وسياسيةٍ عويصة، منها حروب صعدة مع الحوثيين والإنهاك الذي تسبَّبَت به للجيش والبلاد، والتحركات الانفصالية الكبرى في الجنوب، وندوبُ هذين التفصيليْن وجروحُهما في المشهدِ اليمنيِّ حاضرةٌ في الارتجاج الحادِث في الدولةِ، منذ نشوبِ الثورةِ الراهنةِ في شباط الماضي، والتي يحسُنُ التذكيرُ بأَنَّ الدعوات إِليها بدأَتْها أَحزابُ المعارضة، وبأَنَّها ظلت شبابيةً سلمية، على الرغم من الرصاص الحيِّ الذي ووجهت به غيرَ مرَّة، ومن مجزرة 18 آذار (أَكثر من 50 قتيلا)، وغيرها.

تَذاكى الرئيس كثيراً في التعامل مع المبادرة الخليجية، وفي تهويلِ ما يحسَبُها مخاطرَ قاعديةً ستُحدِّقُ باليمن إِذا غادر القصر الجمهوري. وفي الأَثناء، كانت قياداتٌ بارزةٌ في الجيش تنضمُّ إِلى الثورة، وكذا قبائلُ نافذة، ما عنى أَنَّ أَغطيةً مهمَّةً تنزعُ نفسَها عن صالح، وأَن الأَوجبَ أَنْ ينظرَ إِلى عجزِه الواضح عن الحكم في غضون هذه الأَوضاع، وقد ظنَّ أَنَّ إِعلانَه عدم الترشح لولايةٍ جديدة، وهو الذي يمكثُ في الرئاسة منذ 32 عاماً، قمينٌ بأَنْ يُيَسِّرَ له البقاءَ حتى انتهاءِ ولايتِه بعد سنتين. والمقيتُ في الأَثناءِ أَنَّ الرجل، بعد استنفادِ مراوغاتِه في مسأَلةِ التوقيع على المبادرةِ الخليجية، سارعَ إِلى التلويح بحربٍ أَهلية، بل استدرجَها باستهدافِ منزلِ زعيمِ قبائل حاشد الشيخ صادق الأَحمر بالصواريخ، ما أَشعلَ مواجهاتٍ داميةً قضى فيها عشرات.

تبَدّى في هذا السلوك أَنَّ الرئيس أَراد معاقبة الزعيم القبلي النافذ، لإِبلاغه وفدَ المبادرةِ الخليجيةِ إِصرارَه على أَنْ يُنفذَها صالح، فلم يُطِقْ الأَخيرُ هذا الأَمر، وهو الذي ما كان وصولُه إِلى رئاسةِ اليمن في 1978 لولا إِسنادِ الراحل الشيخ عبد الله الأَحمر، والد صادق الأَحمر، والذي قام بتأْمين المظلةِ السعوديةِ اللازمةِ له طوال العقود الثلاثةِ الماضية. بدا أَنَّ رسالةً عقابيَّةً لا بدَّ أَنْ تصل إِلى الشيخ صادق، وإِنْ كان يمونُ على قبائل كبرى وعلى حزب التجمع اليمني للإِصلاح، مضمونُها أَنَّ منازل خصوم الرئيس أَول ما ستُهدم على رؤوسِ أَصحابِها في الحرب الأَهلية الملوَّح بها، وفي البال أَنَّ الشيخ حميد الأَحمر، النجل الآخر للشيخ عبد الله، كان أَولَ الداعين لرحيل صالح قبل عامين.

تتعدَّدُ في اليمن الولاءاتُ والانتماءات، وبين يدي سكانِه (24 مليون) 60 مليون قطعة سلاح، وتتدنّى فيه مستوياتُ التعليم، ويفتقرُ إِلى الحكم الصالح والبنيةِ التحتيةِ اللازمة. في بلدٍ مثل هذا، موقعُه شديدُ الحساسية، تُعدُّ إِزاحةُ رئيسٍ عَمَّرَ 32 عاماً في سلطةٍ جاءَته بعد اغتيالِ سلفِه خطوةً أُولى، لا بدَّ وأَنْ تعقُبها مهماتٌ ثقيلةٌ ينهضُ بها اليمنيون لينتقلَ بلدُهم إِلى سيرورةٍ ديمقراطيةٍ مدنيةٍ حديثةٍ مشتهاة.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   محمود الزيودي   جريدة الدستور