التقى علاء وجمال مبارك والدَهما قبيْل دخولِهما إِلى قفصِ الحديدِ إِيّاه، وسُمِحَ لثلاثتِهم بهذا اللقاء (الميلودرامي)، وكانوا قد افترقوا عن بعضِهم قبل أَربعةِ شهور، بسببِ مكوثِ الأَب حبيساً في مشفاه في شرم الشيخ وسجن النجليْن في «طرَة». ونُشرَ أَنَّ الأَخيريْن بكيا كثيراً أَمام والدِهما وقبّلاه، وأَُنَّ دموعَ جمال كانت أَقلَّ مما سحَّتْ به عينا أَخيه، وظلَّ يقول: سامحني يا بابا، ولم يتسرَّبْ شيءٌ عن ردِّ الوالد المعتلّ على هذا الطلب. بقليلٍ من الخيال، يُمكن تصوّر هذا المشهد الذي يفيضُ بالعواطِف، ويتَّسِقُ طبيعياً في مسارِ أُسرةِ حسني مبارك ومآلاتها ومصائِرها، المتوقعةِ أَو المرتقبة. ونحسبُها فِعال جمال كانت من أَسبابِ انحدارِ هذا المسارِ إلى القاع الذي صار فيه، فقد تركَ مبارك وزوجته لولدِهما هذا أَنْ يتوَهَّمَ أَنَّ مصر مزرعةٌ له ولوالِده، وفي مقدورِهِ أَنْ يصيرَ، لاحقاً، رئيسَها، بل وأَنْ يحكمَها من خلال لجنةٍ تمَّ تصنيعُها له في الحزبِ الوطني الديمقراطي، وبوسائلَ «ديمقراطية» تتيحُ له تزبيطَ الانتخاباتِ النيابيةِ بالكيفيةِ التي يُرتِّبُها له حبيب العادلي، فتُيَسِّر نتائِجُها السلطةَ التي يُريد.
بعيداً عن التفاصيلَ، كان حسني مبارك في السنواتِ العشرِ الأُولى لنظامِه يحوزُ شعبيةً جيّدةً بين مواطنيه، وكان ثمّة رضىً، واسعاً إِلى حدٍّ ما، من المصريين عن خياراتِه الاقتصاديةِ والإنمائيةِ، وبعض السياسية. وفي العشرِ الثانيةِ، بدأَ تفشّي الفسادِ يتزايد، وصارت مساحاتُ التعاملِ الأَمنيِّ القاسي مع تنويعاتٍ من المعارضة، الإِخوانيةِ وغيرِها، تتّسع، وربما أَحدثت مواجهةُ الدولةِ المصريةِ مع الجماعاتِ الإِسلاميةِ المتطرفةِ المسلحةِ التي استهدفت السيّاحَ والشرطةَ، في تلك الحقبة، تعاطفَ مصريين كثيرين مع مبارك رئيساً. ومع تمديد الولاياتِ الرئاسيةِ في العشريةِ الثالثة، وتزايدِ نفوذِ الحزبِ الوطنيِّ وهيمنتِه، إِبّانها، في الفضاءِ السياسيِّ، وبالتزامنِ مع استقرارِ جمال مبارك في مصر بعد مغتربِه في لندن، نشطت حمّى الفسادِ في النهبِ والكسبِ غير المشروع، ما توازى مع تسويقِ خلافةِ جمال مبارك والدَه رئيساً، بعد عمر طويل. وراحَ الشابُّ المذكور يُراكمُ صلاحياتٍ نافذةٍ في السلطةِ، باختيارِ الوزراءِ ورؤسائهم مثلاً، وبدرايةِ والدِه الذي صارت قدراتُه الشخصيةُ والرئاسيةُ تتناقص، والذي استطابَ التوريثَ الذي مرَّ في سوريا بسلام، وتعامى عن تغوّلِ سلطاتِ الفاسدين من رجالِ الأََعمال في الدولةِ، وقد صار كثيرون منهم وزراءَ ونواباً ومسؤولين.
يشعرُ جمال مبارك، إِذن، بأن مقادير من المسؤوليةِ تقعُ عليه عن انهيار نظامِ والدِه، واحتشادِ أَسباب السخطِ والغضبِ الشعبيِّ في لحظة الثورة الهادرة على فسادِ هذا النظام وتجبّره، فلم تعد لدى المصريين قدرة على التعايش معه. يشعرُ بأَنه مسؤول، إلى حدٍّ غيرِ هيّن، عن جرِّ والدِه إِلى قفصٍ من حديد، مطروحاً على سريرٍ طبيٍّ، ينقرُ منخاريْه أَمام ملايين النظارةِ في العالم، على الهواءِ مباشرةً. تنتابُ الولدَ أَحاسيسُ، موجعةٌ على الأَغلب، بأَنَّ أَوهامَه عن مصر مزرعةً له ولوالدِه جعلت المصريين يندفعون غير هيّابين إِلى حمايةِ بلدِهم من قيعانٍ كانت تأْخذُه إليها شلةٌ من الفاسدين والمزوِّرين والمتسلطين. يبكي جمال بين يدي والدِه ويطلبُ الصفحَ والسماح، وكان شقيقُه الأَكبر علاء قد تشاجرَ معه كثيراً، على ما قرأْنا، بسببِ النهايةِ الشكسبيريةِ التي انتهت إِليها العائلةُ المكلومة بتهاوي هيلمانِ أَفرادِها. ... تُرى، ما الذي جالَ في خواطرِ ربِّ هذه العائلة، حسني مبارك، وهو يسمعُ من نجلِه الباكي: سامحني يا بابا ... .
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور