أَمّا وأَنَّ مسلسل «في حضرة الغياب» عن محمود درويش ضعيفٌ، وساذجٌ في بعضِ مقاطعِه، فذلك لا يسيءُ إِلى الشاعرِ الراحل، بل إِلى كاتبِ العمل ومخرجِه وصانعيه، وإِنْ أَنجزوه بنياتٍ حسنة، وإِذا رماهم بعضُ من علَّقوا على المسلسل بأَنهم قصدوا «التربّح» منه، فالأَمر، أَساساً، يتعلقُ بصناعةٍ تلفزيونيةٍ لها كلفتُها الماليةُ غيرُ الهينة، ولا معنى للاشتغالِِ فيها إِذا لم يتحقَّقْ منها كسبٌ مادي، ليس التطلعُ إِليه عيباً في كل الأَحوال. وإِذ يتوازى بثُّ المسلسل في 11 فضائيةٍ عربيةٍ مع مسلسلٍ من الضجيجِ بشأْنِه، بدأَ منذ عرض حلقته الأولى، وكان عجيباً ومؤسفاً أَنْ تنشطَ، في الأَثناءِ، مطالباتٌ، من تلفزيون فلسطين خصوصاً، بوقف بثّه، شارك فيها من يُفترضُ أَنهم، لاشتغالِهم بالثقافةِ أَساساً، مناوئون لمقولةٍ مثلِ هذه، تقومُ على المنعِ والإِقصاء. ولا تصدرُ مناهضةُ جهدِ هؤلاء ضدَّ «في حضرة الغياب»، هنا، عن أَيِّ إِعجابٍ بهذا المسلسل الذي فشل في إِقامةِ صلةٍ بين مشاهديه وعوالم الشاعر الكبير، وأَخفقَ في تقريبِهم من تجربتِه الغنيّة، الحياتيةِ والشعريّةِ والسياسيّة، ووقعَ في مغالطاتٍ غيرِ هيّنة، وبدا أَداءُ ممثلين كثيرين فيه باهتاً، وسقط إِخراجُه في نمطيّةٍ وعاديّةٍ ضاعفتا من بؤسِه، وكان من الميسورِ أَن يكون هذا العمل التلفزيوني حارّاً وبديعاً لو أَنجزه غير فراس إِبراهيم والكاتب حسن م يوسف والمخرج نجدت أَنزور.
أَسوأُ ما في الحملاتِ ضد المسلسل، أن مشاركين فيها لا يُجيزون الاقترابَ من سيرةِ محمود درويش، ويريدون له صورةً تحصرُه في جعلِه أَيقونةً، وتريدُ حمايةَ خصوصياتِه من أَيِّ تشخيصٍ تلفزيونيٍّ، بدعوى أَنه كان مفرطاً في حرصِه على أَنْ تبقى خاصّةً تماماً، وتتصور له سيرةً وحيدةً لا مجالَ للتنويعِ عليها، ومن هؤلاءِ من يظنّون أَنفسَهم الأَحقُّ باحتكار روايةِ هذه السيرة. وراحَ فتيةُ على «فيس بوك» إِلى أَنَّ «في حضرة الغياب» يسيءُ إِلى فلسطين أَيضاً، مع أَنّ المسلسل رديءٌ إِلى درجةٍ لا تجعل له أَيَّ تأثيرٍ في تغييرِ أَيٍّ من الحقائقِ المعلومةِ عن محمود درويش في فلسطين قبل مغادرتِه لها، ثم في ارتحالاتِه وإِقاماتِه في غير بلد. ولم يُبالغْ صديقٌ كتبَ أَنَّ ذهنيةَ أَصحابِ هذا الكلام، وكذا المطالباتُ بوقفِ بثِّ المسلسل، تعبيرٌ عن رقابةٍ جديدةٍ أَشدّ بطشاً من الرقاباتِ الرسميةِ المقيتة. ويجوزُ استهجانُ حميّةِ هؤلاءِ في التصدّي لما يتوهمونها إِهانة لدرويش، فيما لم يُشهروا مثلها بصددِ سوءاتٍ مستنكرةٍ للسلطةِ الفلسطينية، منها الاعتقال السياسيُّ والتعذيبُ في سجونِها مثلاً.
ممَّن يرفعون الصوتَ عالياً ضد المسلسل، من أَشقّاءِ محمود درويش وأَصدقائِه، من كانوا قد اجتمعوا مع فراس إِبراهيم وشجّعوه على المضيِّ في إِنجاز العمل، واطلعوا على سيناريو عددٍ من حلقاته. أَما المؤسسةُ التي تحمل اسم الشاعر الكبير، ويرأَسُها ياسر عبد ربه، وطالبت في بيانٍ عاجلٍ بوقفِ بثِّ المسلسل، فيجوزُ سؤالُها عمّا بادرت إِليه من أَجل درويش ونشرِ منجزِه وتراثِه. وفي البال أَنَّ مؤسسةً أُخرى تحمل الاسم نفسَه في فلسطين المحتلة في 1948 لم تقم بشيءٍ من هذا الواجب. ...، نظنُّ أَنَّ من الأَولى أَن تنصرفَ جهودٌ جادّةٌ وجديةٌ إِلى التعريفِ الدائمِ بقيمةِ ما ساهم به محمود درويش في إِغناء الشعر في العالم، وما نهضَ به في الثقافةِ الإنسانيةِ من أَجل فلسطين وقضيَّتِها، بدل كل هذه الحربِ ضد مسلسلٍ تلفزيونيٍّ ركيك.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور