رفضَ والدُ الأَلمانيةِ الأَصل، جوان شيبل، أَنْ تتزوجَ ابنتُه صديقَها في الجامعة، السوريَّ المسلم القادِم إِلى أَميركا، عبدالفتاح جندلي، وحملت منه في الأَثناءِ بابنِهما الذي سمَّتْه سمير، ثم تركته في منزلٍ للتبنّي عند الأَرمني الأصل بول هاقوبيان وزوجتِه كلارا. تزوج والداه لاحقاً، وأَنجبا منى، ثم انفصلا، فتزوجت الأُم، وهي أُستاذةٌ جامعيةٌ في علم اللغات، الأَميركي هنري سمبسون، فحملت منى اسمَه، واشتُهرت به روائيةً أَميركية. عاد عبدالفتاح إِلى سورية إِبان الوحدة مع مصر، وهو عروبي منذ دراستِه في الجامعة الأَميركيّة في بيروت في الخمسينيات، لمّا ترأَس مرةً جمعية «العروة الوثقى»، وكان على تماسٍّ مع جورج حبش وقوميين آخرين، ثم قفل إِلى أَميركا ليصبحَ أُستاذاً جامعياً في العلوم السياسية، قبل أَن يصيرَ مالك كازينو قمار. تربّى سمير تربيةً جيدة، وصار اسمه ستيف، وللتخفيفِ من تعقيد اسم هاقوبيان، اختير له أَنْ يكون ستيف جوبز. أَصابَه ولعٌ بالكمبيوتر، وعمل في إِجازةٍ صيفيةٍ فنياً في شركة كمبيوتر، وعندما التحق بكليةٍ في ولاية أَريغون، لم يُطقها، فغادَرها، ثم اكتفى بدروسِها في الكمبيوتر. غضب عليه والداه بول وكلارا، فأَوقفا مصروفه، فصار يصرفُ على نفسِه من بيعِه زجاجات كوكاكولا فارغة، وينام عند أَصدقاءَ له، ويأكلُ ساندويتشاتٍ مجانيةٍ في معبدٍ هندوسي.
التحق في شركةِ أَلعاب كمبيوتر في كاليفورنيا، وفي العشرين، ولحسم متاهةٍ روحيةٍ وجد نفسَه فيها، ارتحل إِلى الهند شهوراً، وهناك، تلقّى دروس قدّيسٍ بوذي، ولمّا عاد، انضم إِلى فرقةٍ تشبه فرقة هيبيز. ومع صديقٍ له، وفي مرآبِ سياراتٍ لأُسرةِ والديْه هاقوبيان، أَسَّس في 1976 شركة «أبل» التي أَنتجت كمبيوتر ماكنتوش، بشعارِ التفاحةِ المقضومة الشهير. وبعد نجاحاتِ اختراعاتِها وابتكاراتها، لم تستطعْ منافسة غيرها، وبسببِ مشكلاتٍ داخلية فيها، عُزل عنها، فأَسَّسَ شركةً أُخرى أَطلقت ثورةً باهرةً في عالم السينما، فكان عرّاب أَولَ شريطِ تحريكٍ يتمُّ إِنجازُه بالكمبيوتر. ثم استنجدت به «أبل» لإنقاذِها مما كانت فيه من نذر انهيار، فرجعَ مديراً لها، وفيها أَنجز أَجهزة «آي باد» و»آي بود» و»آي فون» و»آي ماك»، وأَطلقت الشركةُ ثورةً باهرةً في الحقبةِ الرقمية التي نعيش، وأَصبحت من أَهم شركات العالم، قيمتها الصافية 65 مليار دولار، وصار ستيف يملك 29 مليار دولار. كان يُصارع نوعاً نادراً من سرطان البنكرياس، وخضع لعمليةِ زراعة كبد، وتوفي الخميس الماضي عن 56 عاماً، تاركاً زوجته المغنيّة وأَربعة أَبناء، وعائلةً من ملايين البشر، غيَّر عاداتِهم اليوميّة، حين أَحاط حياتَهم بابتكاراتِه الساحرة، وهو الذي يقترن اسمُه بالكمبيوتر الشخصي، وثورةِ الهواتف المحمولةِ والمتعدّدة الوظائف، فاستحقَّ أَنْ يوصفَ بأَنَّه ممَّنْ غيّروا العالم، والعبقريُّ الذي سيبقى تأْثيرُه أجيالاً، والذي خسر العالم بوفاتِه شخصاً فريداً نادراً، وأَنه، بحسبِ باراك أوباما، أَحد عظماءِ أَميركا.
لم يلتق ستيف جوبز والدَه أَبداً، ولم يشغل بالَه شيءٌ من التفجّع جراءَ تربيتِه متروكاً من والديه، فقد انقطع إِلى الإبداع الساحر في دنيا الكمبيوتر، وكان نجاحه فيها فاتناً. وعند وفاتِه، نتعرَّفُ إِلى سيرتِه الهوليوودية بعض الشيء، والجذابة طبعاً، في فضاءِ الحلم الأَميركي، والذي يسبح فيه عربٌ وأَلمانٌ وأَرمن وهنودٌ، فيعطون، مع غيرهم، الإنسانيَّة اختراعاتٍ فذَّة، ومن مزيجِ هؤلاءِ تحديداً، نبت في أَميركا سمير عبدالفتاح جندلي الذي صار ستيف جوبز، ثم كانَ ما كان في العالم.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور