أَنْ نأْنفَ من قتل معمر القذافي بعد الإِمساكِ به بالكيفيّة التي ذاعت، فذلك لأَننا بشرٌ أَولاً، ولأَنَّ الانحيازَ إِلى العدالة هو الأَوجبُ للاقتصاص من كل مجرمٍ من طينةِ القذافي، وليس لأَنَّ تعاطفاً مع المذكور أَلمَّ بنا، أَو لوثةَ إِعجابٍ به أَصابتنا. مناسبةُ التأكيد على هذه البديهيّة، أَنَّ بياناً أَصدرتْه «لائحة التيار القومي»، من دون أَنْ تُعرِّفَ هذه بنفسِها، وإِنْ يُخمن المرءُ أَنها في رابطة الكتّاب الأُردنيين، ينعى «الأَخ القائد العربي الشهيد معمر القذافي»، والذي «استشهدَ في القتال، ووعدَ أَنْ يبقى في ليبيا، وأَنْ يُقاتل حتى النصر أَو الاستشهاد، فوفى بوعدِه حتى صنعَ لنفسِه عرشاً في تاريخ العرب». ويحتاج قارئُ البيان أَرطالاً من الأَعصاب الباردة ليحتمل شغفَ أَصحابِه بالعقيد الليبي الذي ظلَّ فالتاً أَسابيعَ قبل صيدِه، والذي يعدُّ من أَرذل الطغاةِ في تاريخ البشرية. والسؤال، ببساطةٍ، إِلى أَصدقائِنا أَصحاب البيان، عما إِذا كانت قوميتهم العروبية لا تستقيمُ إِلا مع مناصرتهم القذافي وبشار الأَسد وصدام حسين. لماذا لا يقدِرون أَنْ يكونوا، ونكون معهم، قوميين، وفي الوقتِ نفسِه، مع أَشواق الشعوبِ العربية في التحرّر من الاستبدادِ والفساد والتسلط والإجرام والفتك والكذب، على نحو ما كانت عليه مباذلُ القذافي في خطفِه ليبيا، وإِباحتها لشخصه ولأَولاده، فلم تتيسر فيها دولةٌ تتوفّر على نظامٍ مؤسساتي ومقادير معقولةٍ من الاحتكام للقانون.
يزيدُ البيان ويعيدُ في خُرّافية احتلال «الناتو» ليبيا، ويستطيبُ رمي ثوار ليبيا ومجاهديها، ممن انشقّوا عن الدكتاتور وممن تطوعوا لقتال كتائِبِه، بأَنهم «ثوار الناتو»، من دون احترامٍ واجبٍ لدماءِ من قضى من هؤلاء، ومن مدنيين كثيرين، بآلة الفتك لدى القذافي وميليشياتِه. وهذا يُسيء إِلى الشعب الليبي الذي يحتاجُ من أَشقائِه العرب كلَّ عونٍ وغوثٍ وحنو، وإِلى كلٍّ إِسهامٍ لبناءِ بلدِه ونهوضِها، وتمتين مؤسساتها وبِنْيات الحكم والنظام والسلطة والإِدارة فيها. وسيكون غضبُ هذا الشعب كبيراً من رمي ثُوارِه بتلك التسمية المعيبةِ لأَصحابها، فقد قاتل هؤلاء في معارك كرٍّ وفرٍّ صعبةٍ في أَجدابيا والبريقة ومصراتة وبني وليد وغيرها، من دون أَن يكون بينهم جنديٌّ من «الناتو». وقد أَصابَ ليث شبيلات في رفضِه تخوين ثوار ليبيا للجوئِهم إِلى هذا الحلف، وفي قوله إِنَّ ذلك كان بسبب تخلّي العرب عن نُصرتِهم. ونرجو ممن أَشاعوا البيان أَنْ يكفّوا عن الكلامِ الكبير عن اعتبارِ ما جرى في ليبيا «عدواناً إِمبريالياً على الأُمة العربية والعالم الإسلامي وإِفريقيا والعالم الثالث»، فهذه لغةٌ قذّافيّةٌ تخشبَّت ، وأَنْ يلتفتوا إِلى المستقبل الذي يليقُ بليبيا، لتكونَ في مطرحِها العربي، مستقلةً في قرارِها الوطني، متصلةً بالعالم والحداثةِ وحقوق الإِنسان، فالخوفُ عليها مشروع، ليس فقط من استهدافاتٍ وأَطماعٍ أَجنبية، بل، أَيضاً، من تفشّي الذهنيّةِ التي تتعامى عن أَفراح الليبيين بتخلصِّهم من فظاظةِ حكم عائلةٍ سارقة، ويشتمُ «معتدي الناتو وعملائِهم المحليين الخونة».
لم نُصادف ولعاً بالقذافي «شهيداً وقائداً عربياً»، لدى غير أَصحابِنا هؤلاء، وهذا محزنٌ، والمأمول أَن لا يتخطّى عدد الحزانى على «الشهيد» بين ظهرانينا أَعضاءِ اللائحة التي صدر البيان عنها، وإِلا نكونُ أَمام حَوَلٍ غيرِ هيِّنِ الإِساءَة لليبيين، كما مثيله الذي يٌسيء لإِخوتنا السوريين، حماهم الله ونصرَهم.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور