موجزُ الخبر أَنَّ أَقدم أَسيرٍ في العالم، والذي أَمضى 34 عاماً في سجون الاحتلال الإسرائيلي وتحرر قبل أَسابيع، نائل البرغوثي، تزوَّج من حبيبتِه إِيمان نافع، وقد عاشا قصة حبٍّ لمّا كان خلف القضبان يقضي حكم العدو بالسجن المؤبد. كان يراها في التلفزيون ويتَّصل بها بالهاتف، لنشاطِها في نادي الأَسير، وقد قضت تسع سنوات في الأَسر وتحرَّرت في 1997، ولما طلب يدَها وافقت، لإِعجابها به، لكنها طلبت أَنْ يكون الزواج عند تحقُّق حلم الإِفراج عنه، وهو ما صار. لا تُذكِّر القصةُ هذه بفيلم عادل إِمام (حب في الزنزانة)، وإِنما تُذكِّر بأَنَّ أَشواق الأَسرى وأَحلامَهم ومشاعرَهم وعواطفَهم ومخاوفَهم وآلامَهم، وهم لدى الوحش الإِسرائيلي، تستحق أَنْ نعرفها، وتحتاجُ إِلى إِشهارِها بتوثيقِها، لتبقى في أَفهامِنا ومداركِنا عندما نتحدَّثُ عن كل الأَسرى الفلسطينيين والعرب، ولكلٍّ منهم فردانيَّته وخصوصياتُه الذاتية، حين يحبُّ ويخافُ ويتأَلم ويبكي ويضعف ويقوى، وليس بحسبانِه قضيَّةً فقط، يُنظر إِليها من زاويةِ صمود الأَسرى في احتمال أَوجاع الاحتجاز والاختطاف.

هو طلبٌ شديدُ الإِلحاح، نتوجَّه به إِلى نائل البرغوثي وكل زملائِه، ومنهم أَحمد أَبو حصيرة (30 عاماً في الأَسر) ويحيى السنوار (25 عاماً)، أَنْ يكتبوا تجاربَهم الأسطورية، أَنْ يبوحوا بما كان يأْتي إِلى خواطرِهم في عتم ليالي الاحتجاز عند العدو التي تعصى على العدّ، أَنْ يُدوِّنوا كل شيءٍ، ليس فقط عن وطنيِّتهم المؤكدة وقناعاتهم السياسية، بل أَيضاً عن ذواتِهم بحسبانِهم أَفراداً خاضوا تجربةً استثنائيةً في المناورةِ مع الزمن وجريانه، وفي التفكير بقادم الأَيام، وطالما شعروا باللوعةِ ودمعت عيونُهم في لحظاتٍ شديدةِ الحرارة في غيرِ شأْنٍ شخصي وعائلي وإِنساني. ثمَّة حاجةٌ قصوى إِلى أَنْ تُحمى هذه الأُسطورةُ الفلسطينية من النسيان، وقد صنَعها عشراتُ آلاف الأَسرى الذين غالبوا أَلواناً من العذاب والقلق، وما زال يصنعها آلافٌ ينتظرون الخلاص والتحرر، أَفرَحنا الله بتحرُّرِهم قريباً.

لم نقرأْ شيئاً دوَّنه أَحمد أَبو السكر الذي قضى 27 عاماً أَسيراً في سجون إِسرائيل، وأُفرِجَ عنه قبل خمس سنوات، ولم نطالع شيئاً أَشهره سعيد العتبة الذي أُسِرَ 31 عاما، لم نقرأْ لأَي أَسيرٍ فلسطيني محرَّر مرافعةً عن آلامِه وأَشواقِه وأَحلامِه في سنواتِ الاحتجاز. كأَنَّهم اكتفوا بمقابلاتٍ صحفيةٍ مرتجلةٍ معهم لما تحرَّروا، ثم تركونا في عجبِنا الغزير من قدرةِ كلٍّ منهم الاستثنائيةِ على احتمالِ الزنازين مخطوفين سنواتٍ لدى العدو الغاصب.

زواجُ نائل البرغوثي المبارك خبرٌ مبهجٌ يُيَسِّر مناسبةً نُناشدُه فيها، وكذلك زملاءَه الذين سبقوه إِلى الحرية والذين أُفرَجَ عنهم معه، بأَنْ يُسجِّلوا الحكايةَ العظيمةَ التي صنعوها، لا نُريدها أَنْ تُنسى، ليس نيلسون مانديلا الذي دوَّن تجربته بلغةٍ إِنسانية أَقلَّ أَحقيَّةً بإِشهار بطولتِه من أَحدٍ منكم. كتب سمير القنطار كتاباً (أَحتفظ به ولم أَقرأْه بعد)، ونشر مروان البرغوثي الذي ننتظر فكَّ أَسره كتاباً، ودوَّنت سهى بشارة تجربتَها في كتابٍ رائق. ونظنُّها إِشراقاتٍ إِنسانيةً ستبقى خالدةً في سطوركم، أَسرانا الذين نحبُّكم، لو تُورِّطونا فيها بالذي كانت عليه لواعجُكم ومداركُكم، وبما أَحببتم وما كرهتم، ما اضطربَ في دواخلكم وما استقرَّ، وما جالَ في أَفهامِكم من أَسئلةٍ عن الوجود والحياةِ والجمال والإِيمان، طوال سنواتٍ يُعْيينا عدُّ أَيامِها. ... أَحبَّ نائل البرغوثي وهو في الزنزانة، ويستحقُّ حبُّه خلوداً في مدوَّنةِ الأَلم الإِنسانيِّ العظيم.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   محمود الزيودي   جريدة الدستور