لا تنزعج الولايات المتحدة من تسميةِ وجودِها في السنواتِ التسعِ الماضية في العراق احتلالاً، فهي التي طلبت من مجلس الأَمن الدولي توصيفَه هذا، ومن مفارقاتٍ غيرِ قليلةٍ أَنَّ أَميركا وحدَها تحتفلُ في هذه الأَيام بإِنهائِه، وتوهمُ نفسَها بأَنَّه ما كان إِلا لإِنجاز مهمةٍ هناك، ثم انتهت بنجاح، بحسبِ وزير الدفاع ليون بانيتا. وأَنْ لا يحفلَ العراقيون ولا يحتفلون بجلاءِ الاحتلال عن بلدِهم، وأَنْ لا يتعاملَ الشارع العربي مع الحدث بأَيِّ صنفٍ من الابتهاج، فذلكما أَمران يُعبّران عن شكوكٍ عميقةٍ بأَنَّ العراقَ ماضٍ من حالٍ غيرِ سعيدٍ إِلى حالٍ غير سعيدٍ ثانٍ بعد طيِّ صفحةِ الاحتلال، وعن قناعةٍ واسعةٍ بأَنه ضائعٌ في متاهاتِ الإِنسدادِ السياسيِّ والفسادِ ونقصانِ الأَمن والأَمان. وإِذ غيرُ منسيٍّ قولُ كولن باول، بعد شهرٍ من غزو العراق، إِنَّ نجاحَ الولاياتِ المتحدة في هذا البلد قد يُعيدُ ترتيبَ المنطقةِ جذريّاً بطريقةٍ إِيجابيةٍ تخدم المصالح الأَميركية أَكثر، فإِنَّ من الصعبِ أَنْ يعثرَ المراقبُ على أَيٍّ من مظاهرِ النجاحِ الأَميركي هناك، مع فشلِ واشنطن في جعلِ العراق نموذجاً في الإِدارة والديمقراطية والتعايش والازدهار الاقتصادي، وهو الذي يغالبُ أَوضاعاً مقلقة، وحكماً غير مستقر، وتجاذباتٍ مذهبيةً ومناطقيةً مقيتة، عدا عن فسادٍ مهولٍ وأَسود. وفي الوسع أَنْ يُقال إِنَّ تفكيك روابط وحدة الدولة العراقية وإِضعافَها وإِشاعةِ الطائفية أَهم إِنجازات الاحتلال، وهو الذي يُغادر العراقَ متروكاً للذئاب، بحسبِ نعتٍ حصيفٍ قاله طارق عزيز قبل أَكثر من عام.
لا ينجذبُ ملايينُ العراقيين في خارج بلدِهم إِلى العودة إِليه والاستقرار فيه، ولا تستنفرُ أَحوالُه رغبة المستثمرين في تجريبِ حظوظهم فيه، وهو الذي يحوز إِمكاناتٍ طبيعيةً وثرواتٍ كثيرة، ليس فقط لأَنه لا يزال مكاناً خطراً، على ما وصفه قائد القوات الأَميركية في المنطقة الوسطي فيه، الجنرال بيرنارد كامبو، بل، أَيضاً، لأَنه مكشوفٌ على حزمةٍ من التوترات الأَمنية والسياسية. وهذه الطبقةُ الحاضرةُ في السلطةِ هناك، بدلاً من أن تُشيعَ الآمالَ بعد الانسحاب الأَميركي تنشغلُ بتسعيرِ خلافاتِها، وتأْزيم قنواتِ التواصل فيما بينها، وهي المتواجدةُ في رئاسةِ الجمهورية والحكومةِ والبرلمان. كما أَنَّ التشخيصَ الأَوضح لراهن العراق يُفيد بأَنَّ البلد ماضٍ إِلى مزيدٍ من الحضور الإيرانيِّ الذي يتعزَّز في مناطقَ آمنةٍ ومريحةٍ له هناك، بحسبِ مفرداتِ الجنرال رحيم صفوي الذي كان زهوُه في محله، وهو يتحدَّثُ عن نفوذِ بلادِه الذي يفوق نفوذ أَميركا في العراق منذ 2003. وفي تشخيصٍ للزميل علي عبد الأَمير، ثمَّة تمدُّدٌ إِيرانيٌّ سياسيٌّ واقتصاديٌّ واجتماعيٌّ وديني، من مظاهرِه أَنَّ المجموعاتِ المسلحة والمتشدِّدة التي درَّبتها طهران ودعمتْها، عصائب الحق وكتائب حزب الله ولواء اليوم الموعود وغيرها، قادرةٌ على ضربِ الدولةِ العراقية في أَيِّ وقت، ما يتوازى مع فرض ثقافةٍ دينيةٍ متزمتةٍ في عدّة مدن شيعية. ولا نظنُّ أَنَّ إِياد علاوي غالى في اعتبارِه النفوذ الإيراني خطراً حقيقيَّاً سيواجهُه العراق في الفترة المقبلة، وفي قولِه إِنَّ خطر الميليشيات التي دعمتها إِيران لن يكون أَقلَّ من خطر القاعدة.
126 أَلف مدني عراقي و20 ألف جندي وشرطي قضوا في عنف الاحتلال الأَميركي وأَجوائه التي استولدت احتراباً أَهلياً بغيضاً، كلُّ آمالنا أَنْ لا يُستعادَ ثانيةً، وأَنْ يخيبَ تشاؤمنا الذي نندفعُ إِليه غصباً عنّا، فشواهدُه، للأَسف، أَمضى حجَّةً من غيرِها.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور