قضى، أَول من أَمس، أَكثرُ من 50 عراقياً وأُصيب نحو مائةٍ في تفجير انتحاري. ... تُيَسِّرُ لنا الفضائيات الخبر، ثم لا نحرصُ على معرفةِ التفاصيل، نكتفي بعناوينَ عابرةٍ عن الضحايا والجرحى أَنهم زوارٌ شيعةٌ في البصرة. لا تُحدِثُ الجريمةُ وقعاً بفظاعتِها في مداركِنا وأَفهامِنا، بل في وجدانِنا أَيضاً، فنستقبلُها بعاديةٍ كثيرةٍ واكتراثٍ قليل. ننجذب أَكثر، في الموضوع العراقي في هذه الأَيام، إِلى حكايةِ اتهام نائب الرئيس طارق الهاشمي بالتورط في جرائم تفجيرٍ سابقة، وطلب نوري المالكي محاكمَته، أَكثر من حكاياتِ دمٍ غزيرٍ في تفجيراتٍ دوَّت في الأَيام الماضية، في بغداد وغيرها، وسقطَ فيها مئاتُ القتلى والجرحى. تُراها مشاعرُنا، محض الإِنسانية، لم يعدْ فيها فائضٌ نتعطَّفُ فيه على العراقيين من أَبناءِ جلدتِنا العربية، وقد صار القتلُ فيهم منذ سنواتٍ فعلاً رتيباً، ومضجراً أَكثر منه مدعاةً للإشفاق وإِشهار أَمارات الضيق وبعض الأَسف؟.

شيءٌ من هذا الأَمر، بات فينا، في كيفيّات تلقينا الأَخبار عن أَعدادِ القتلى اليومية في سورية، وصيَّر كثيرين منا، نحن العاملين في مطابخِ الجرائد، لا يرون أَهميَّةً في إِبراز هذه الأَعداد في عناوين الصفحات الأُولى. أَما سقوط شهيدٍ أَو اثنين أَو ثلاثةٍ في اعتداء إِسرائيلي في غزة، فلم يعد شأْناً يستحقُّ انتباها، والبادي أَنَّ إِسرائيل صارت تُحبِّذُ قتلها فلسطينين أَو ثلاثةٍ كل نهار أَكثر من قتل عشرين أَو ثلاثين في مذبحةٍ واحدة، فذلك أَيسر لها من مغالبةِ وجع الرأْس من “الرأْي العام”.

القصّة وما فيها أَنه، أَخلاقيا وإِنسانياً، لا يجوز أَنْ يكون هناك مطرحٌ لأَيِّ حديثٍ في السياسة أَمام وقائع القتل، الأَعمى منه والعمد، فيما الجاري أَنَّ البث الإِعلاميَّ المهول يفرضُ علينا أَولوياتِه وتراتبياته في رسائِله ومحتواه، نستسْلم لها فتفرضُ علينا معاييرَها، وهذه هي لا ترى في قتلِ مأْفونٍ 53 مدنيا عراقياً آمنا، بعد أَنْ وزَّع عليهم الحلوى، خبراً كبيراً وشديدَ الفظاعة، يحيلُ إِلى ما كان لدى كلٍّ من هؤلاءِ البشر من آمالٍ وأَحلامٍ وأُمنياتٍ. لا يستحقُّ أَيٌّ منهم أَنْ تتجمَّد الشاشات على صورتِه وحدَه، ولا أَنْ ننكبَّ على سؤالِ العالم كله عن الحالِ البالغِ التردّي في القيعان، والذي جعل ذلك الانتحاريَّ يرى فعلاً جهادياً في جريمتِه. لا مدعاةَ لإِشغال الناسِ في حادثةٍ شديدةِ العاديةِ مثل هذه، فقد سبقتها كثيراتٌ مثلها في كل العراق، فهل نطالبُ العرب بالنحيبِ الدائم كلما عنَّ على بال أَحدٍ هناك أَنْ يقتلَ مائةً أَو عشرين أَو خمسة، في سوقٍ أَو مسجدٍ أَو حسيْنيةٍ أَو شارع؟.

العالمُ أَوسعُ من العراق، ثمَّة لبنانيٌ قتله رصاصٌ سوري، وثمَّة مسلمون ومسيحيون في نيجيريا قضوا في حرقِ كنائس ومساجد، وفي عمليات فتكٍ واحترابٍ أهلي. ويشتملُ كل تاريخ البشرية، وليس العرب وحدَهم، على ما لا يُحصى من الأَرواح التي راحت في مثل وقائع العراق ونيجيريا وسورية، فلا مدعاةَ للندبِ والنواحِ والفلسفةِ الزائدةِ والإنسانيةِ الرسوليةِ أَمام كل حادثة قتلٍ في هذه الأَرض، وإِلا كنّا سننقطعُ لمثل هذه المراسم، ولا ننصرفُ إِلى أَشغالنا، فيما الحيُّ أَبقى من الميت. ولكن، حمايةً لمشاعرِنا من العطن، تكفي مقاديرُ من التأَسّف نصرفُها وقتَ تبلُّغِنا أَخباراً عن ناسٍ يقضوا قتلاً في البصرةِ وبغداد وغيرِهما، في مزار شريف أَو المكسيك، شيعةً أَو سنةً أَو نصارى أَو بوذيين.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   محمود الزيودي   جريدة الدستور