أَما وأَنَّ الإزورار عن الشعر في مجتمعاتنا العربية ظاهرة ملحوظة، وباتت مكانته غير خاصة، وعلى غيرِ ما كانت في الثقافةِ العربية، ما يعودُ إِلى أسبابٍ غير قليلة، بعضُها عويص، وبعضٌ آخر مفهومٌ، وربما مسوَّغٌ، بالنظرِ إِلى قلة الشعرِ المتينِ والبديع في المنتوج العام، ولتناقصِ المنابر والمنصّات اللائقةِ به، أَما وأَنَّ هذا هو الحال، فإِن احتفاءً بمنبرٍ ثقافيٍّ جديدٍ ينشغلُ بالشعرِ وفضاءاتِه يصيرُ ضرورياً ربما. وحين تبادرُ إِليه هذه السطور بشأْنِ مجلة “بيت الشعر” التي صدر عددُها الأَول الشهر الجاري، فإِنها لا تفعل ذلك كيفما اتفق، بل هي اللمسةُ اللافتةُ في هذه المجلة، وكذا انفتاحُها الذي على كل أَلوان الشعر الفصيح وتنويعاتُه، من بعض أَسبابِ التنويهِ بهذه الدورية التي يُصدرُها بيت الشعر في أَبوظبي، ويقومُ عليها فريق من محبي الشعر، ينحازُ إِلى جمالياتِه وإِبداعاتِه ومساحات حضورِه في الأَجناس الأَدبية والنتاجاتِ الفنية، بحماسٍ لا يقعُ في المهرجانيةِ العابرة، بل يصدرُ عن جديّةٍ واجبة، وعن احترامٍ لازمٍ لقيمةِ الشعر، وإِدراكٍ خاص لأَهمية الثقافة، حين تكونُ حمايةُ الوجدان من الرداءَةِ عنوانَ حماس هذا الفريق، الشعراء، إِبراهيم محمد إِبراهيم رئيس التحرير، وبشير البكر مدير التحرير، وعبد الله أَبو بكر سكرتير التحرير، وجهاد هديب ورنا زيد في هيئة التحرير، وبإِشرافٍ عام من الشاعر حبيب الصايغ.
مجلاتٌ غيرُ قليلةٍ صدرت في غير بلدٍ عربيٍّ في العقود الماضية، تخصّصت للشعرِ وقضاياه، وكان لبعضها دورٌ مهم، غير أَنَّ الجديدَ الذي تضيفُه “بيت الشعر” يتحقق في إِيقاعِها الشديد الحيوية، وفي الجاذبية التي تتبدّى فيها، حين تُوازي بين التخصصيةِ النخبويةِ والمقروئيةِ العريضة، وبين السمتِ الصحافي، بالخبرِ والتعليق والتقرير والمتابعة، والجهدِ التثقيفيِّ الذي يُضيء على قضايا مستجدّة، وأُخرى قديمةٍ حاضرة، وكذلك تُؤاخي بين الدراسةِ والمقالةِ والحوار والترجمةِ، وبين المقاربةِ النقدية والتناول التحليلي، فضلاً عن حضور النصوص الشعرية التي يدلُّ تنوعُ أَمزجتها على روحٍ تعدديةٍ ظاهرةٍ تتصف به المجلة، وثمّة، إِلى ذلك كله وغيره، المقارباتُ التي تتناول الصلات القائمة بين الشعرِ وفنون التشكيل والروايةِ والقصّ والسينما. ونظنُّها خبرةَ بشير البكر، الشاعر والكاتب والمعلق السياسي، سنواتٍ في عدّةِ منابر عربية، كانت وراءَ ما يمكنُ اعتبارُه ليونةٍ بديعةٍ في المجلة الرائقة، وهي الخبرةُ التي وجدت مساحةً رحبةً في أَجواءِ العملِ مع أُسرةِ التحرير كلها. ولا يعني التأْشير هنا إِلى “مزايا” بيت الشعر، كما يقعُ عليها قارئُ عددِها الأول، لا يعني استقبالها بمديحيةٍ فائضةٍ، بل بالنقد المحبّ والحميم، والذي نراه شديدَ الوجوب في نقاشِنا الثقافيِّ العربي، فالأوجب دائما، أن يقوم رهانُنا على السؤال والنقد، صدوراً عن هاجسِ التجدّد الدائم، والتطوير المستمر.
قد لا تُيسِّر اللحظةُ العربية الراهنة، سيّما مع الجفافِ واليباسِ اللذان تعرفهما الحالةُ الثقافيةُ العامة فيها، بيئةً حاضنةً لنجاحِ مجلةٍ معنيةٍ بالشعر. لسنا هنا في واردِ فحص صحةِ هذه الفرضية، بل ربما في اعتبارِها تحدياً مضاعفاً أَمام “بيت الشعر”، يجعل انتظامَ صدورِها وصمودها، وبكيفيةٍ تختار التجدّدَ عدداً بعد عدد، الرهانَ المنتظر منها، والمتوقع أَيضاً. والمرجو، هنا، أَنْ تجدَ مجلتنا الرفيعةُ مكانَها في التداولِ الثقافي في البلادِ العربية، سيّما وأَنها ليست إِماراتية ولا خليجيةً فقط، بل منصةً عربية، يحضر فيها المغرب والمشرق، وقبل ذلك وبعده، يحضرُ الجمالُ الذي نحتاج، في كلِّ مطارِحنا العربيةِ الشاسعة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور