قال عزرا – إيل : ( سبحانك لم يبق أحد ! )
حينئذ لم يومض الضوء العلوي، بل ساد صمت، فانقبض قلب عزرا –إيل .... وكان الثلاثة حوله : - (إسراف – إيل ... ميكا –إيل ... وجبرا –إيل ).
- (أي عزرا –إيل ... ألم تأخذك بهم رحمة حين قبضت على أرواح
الجميع ؟!) .قال جبرا – إيل .
- ( إنها الأوامر قضت بأن يموتوا، ولست إلاّ يد العليّ ! )
وغشي الحزن عزرا-إيل !
***
جاء الصوت: ( من بقي يا عزرا – إيل ؟! )
التفت حوله ...
كانت الأرض فارغه إلاّ من شواهد القبور، وأِشباح الموتى، وهسيس الريح الذي يضرب جدران البيوت ...
ولم تكن اليابسة لذّة للساكنين، ولا السماء فضاء الحالمين!
وحدها القبور كانت!
أما الدروب فكلها بقايا ذكريات بعيدة : هنا نقش البشر تاريخهم، والعروش بقيت تفتقد دفء عباءات المتربعين عليها، والمشانق تهتز حبالها بعد أن سقطت كل الرؤوس..
وفي الأزقة رذاذ كركرات ضحك الأطفال بلا صوت، والوحشة خيمة حتى على الذكريات ... لم تبق الاّ الريح بلا معنى، حيادية حدّ النشيج !
***
- ( من بقي يا عزرا –ايل ) ؟!
- (سبحانك ... لم يبق أحد ! )
وارتفع الصوت متحديا : ( بل بقي يا عزرا –ايل !)
حدّق حوله مدققا أكثر ....
كانوا يحيطون به : - ( جبرا –ايل/الحبيب، إسراف –ايل /الرفيق، ميكا –ايل /الصديق) كذلك أنا مؤتمن العرش وقابض أرواح الجميع !
ماذا ؟!
هل يعقل بعد هذه الخدمة العظيمة لهم في سرايا السماء أن يأمرني بأن اقبض أرواحهم ؛ الحبيب، والرفيق، والصديق، وأنا ؟ّ
ماذا ؟! غريب أمر هذي السماء !
أبيض ... أحمر .. أخضر ... أسود ...
والبقية ماشية بألوان أخرى كثيرة، تسير ولا تدري إلي أين ... على فترات أكلها الأسد بعد أن تنازلت في البدء عن الثور الأبيض، ثم الأحمر، والاخضر، والأسود ... والبقية !
حتى جاء يوم قالوا فيه : ( أكلنا يوم أكل الثور الأبيض ! )
تذكر عزرا – ايل تلك القصة الأرضية فتساءل : ( ماذا عن مواشي السماء ؟! )
قال الصوت : ( من بقي يا عزرا – ايل؟! )
أجاب بانكسار : ( لم يبق إلاّ جبرا –ايل، وإسراف –ايل، وميكا –إيل، وعبدك الماثل بين يديك ! )
عبدك ! عبدك!
هه .. نعم، كلنا عبيدك، ولك الأمر ... ها نحن أمامك بعد أن عذبنا الجميع وأمتناهم، فماذا بقي ؟!
أغمض عينيه فرأى كيف كانوا يجوبون البلاد، كل البلاد،ويتنصتون إلي كل همسة ونأمه فيها، ثم يخبرون صاحب الأمر بما تحدث به اليمين، وما خطط له اليسار ... يرصدون له من فرح ومن بكي ... ثم يأتونه مخبرين : ( لقد أخطأوا، وأساءوا ... لقد عارضوا وانحرفوا )
فيأمره صاحب القول : ( يا عزرا –ايل، اقبض أرواحهم ثم زجهم في القبور ) . ويفعل دون سؤال !
يبكون فلا يرحم ... يرجون فلا يجيب ...
يتشبثون به : ( يا عزرا-ايل، أمهلنا يوما أو بعض يوم !)
لكنه لا يسمعهم !
قال لروحه : ( كم كنت غبيا إذ لم أسأل نفسي ماذا سيكون مصيري حين يموت الجميع ؟! وماذا اذنبوا لينتهوا، ويزجوا في القبور مع الدود والذباب ؟! ألأنهم حاولوا أن يسألوا ويفكروا ؟! )
- ( يا عزرا –ايل ... أقبض روح جبرا –ايل ؟! )
ارتفع الصوت آمراً ... فبكى جبرا –ايل !
وغطى الحزن وجهه فتساءل : ( سبحانك ... لماذا ؟! ألم أكن خادم عرشك المطيع ؟! ألست حامل رسائلك إلى مريديك حينا، وجناح عذاب على معارضيك أحيانا أخرى ؟! ألم اكن نفخة الرحمة على بعض المدن – بأمرك – في زمان، وإعصار نقمة على أقوام –بأمرك – في زمان آخر ؟! ألست حاجبك المطيع، وحارس سرّك الأمين ؟! إذن ... لماذا تسلّط سيف الموت حتى عليّ ؟! )
لم يتراجع الصوت، فاقترب عزرا –ايل، وقال:
- (عُذيرك ... فلا بدّ وأن أطيع الأمر .. لا بدّ ).
وقبض روح جبرا –ايل .
***
مرهقا كان !
ورأى إسراف – ايل، وميكا – ايل، يرجوانه ألاّ ينظر اليهما .
قال ميكا – ايل : ليتني لم أخلق !
قال إسراف – إيل : الدور قادم إلينا، ولا مناص من قبضة عزرا –ايل !
هزّهما الصوت : ( يا عزرا –ايل من بقي من عبادي ؟! )
نظر إليهما، فأشاحا بوجهيهما عنه ...وتحشرج صوته ...
قال : (سبحانك لم يبق إلا ميكا –ايل، وإسراف –ايل، وعبدك الماثل بين يديك ! )
ساد الصمت ...
واقترب منهما، فالتقت عيناه بعيني ميكا –ايل : ( كيف يأمرني بقبض روحك وأنت من كنت بيدك تقبض أرزاق البلاد وخزائنها، وبيدك انسياب الأنهار، ودموع المطر ؟.. كيف ؟
وأنت كل الأشياء كنت تعطي أو تقطع، تأمر أو تنهي ! ثم بلحظه يتخلى عنك ! كيف وأنت ذراعه التي تجتاح كل الأمكنة، وتبعثر كل استقرار ؟! )
حوّل عينيه باتجاه إسراف – ايل ...
كان الصُور بين يديه، بينما قلبه ينفخ خوفا، وعيناه مذهولتان: ( أنا ... أنا من عذب الجميع ... الآن أعترف ! لا مجال للإنكار، ولا بديل عن الاعتراف فبعد قليل، وربما الآن سيقبض عزرا – ايل روحي رغم أنه صديقي، لماذا أكذب، حتى آخر لحظة، على روحي ؟! نعم كنت سببا في شقاء الكثيرين، وعليّ أن أعترف : أقر بأني أرهقت البشر، كل البشر بالعذاب ... وكان خلاصهم بيدي لكني لم أفعل ... كنت الوحيد القادر على بعثهم ببوقي هذا لكني أجّلت ذلك عن سبق إصرار على تعذيبهم، وتصميم على نيل رضا العليّ ولو على حساب آلامهم ... الآن أعترف، وما كنت أدري بأن السيف الذي سلطته على رقاب العباد سيصل إلى رقبتي ! ) .
- ( يا عزرا – ايل ... إقبض روح ميكا – ايل ) .
أمر الصوت بذلك، فانقض عزرا –ايل بسرعة خوف أن يأخذه ضعف، وقبض روحه.
ثم لم يبق إلآه، وإسراف – ايل فكانت المواجهة :
- ( عزرا – ايل ... ماذا لو أمرك أن تقبض روحي ... هل تفعل ؟! )
- ( رحماك إسراف –ايل ... وهل كنا جميعا نستطيع أن نخالف أمره ؟! )
- (كان افضل لو لن نعذّب، أنا وأنت، البشر ... ماذا استفدنا الآن ؟! ... لا شيء !! )
- (كنا نستطيع أن نخفف عنهم، لكنا ما فعلنا ... وهو أمر بذلك !)
- (لو نستطيع الهروب ! )
- ( لكن على أين نهرب ؟!)
***
ارتطم الصوت بآذانهما : ( يا عزرا –ايل ... من بقي من عبادي ؟! )
فابتعدا فجأة عن بعضهما كأن لا رفقة بينهما ...
قال عزرا –ايل : ( بقي إسراف –ايل ... وعبدك الماثل بين يديك ! )
وبكى إسراف –ايل حين سمع :
- ( إذن ... فاقبض روح إسراف –ايل )
قال عزرا –ايل : ( ما الذي يبكيك الآن ؟! )
بكاء أجابه : ( تذكرتهم .. كلهم كانوا يرجونني أن أريحهم، ولم أكن افعل ... كنت قاسيا معهم ... تذكرتهم،وها قد جاء دورهم لينتقموا من عذابي لهم .. ! )
اقترب منه، فسقط سماء ... ومات !
***
بقي عزرا – ايل ...
أحس بالغربة وحيداً !
تأمل حوله فكان رفاقه في خدمة العرش يسبحون موتى بين السماء والأرض بلا قبور ولا جبروت !
أخذ يهذي : ( وحدي بقيت، وجميعهم رحلوا .. ليتني لم أعذب أحدا ... ليتني لم أُمت أحدا ... اقتربت الساعة، وأنا حتى آخر لحظة إسفين الموت والعذاب حتى على أعزّ
الأحباب لي ! )
سمع الصوت: ( من بقي يا عزرا –ايل ؟! )
ها قد جاءني الموت !
ماذا افعل ؟! دقات قلبي تنخفض قليلاً، قليلاً، والبرودة بدأت تجتاح جسدي ... آه، لو أشرب قطرة ماء .. لو أعطى القليل من الوقت لأكفّر عن خطاياي بحق من عذبتهم ...
اقتربت الساعة، فماذا أفعل ؟!
بلهفة قال : ( سبحانك لم يبق إلا عبدك الماثل بين يديك ! )
عبدك ! عبدك!
إرحم عبدك .. أنا من نسي كلّ الرحمة من أجل إطاعة أمرك ...
ليتك ترحمني ! عبدك ... وعبدك ..
كنت سيفاً بيدك، وموتاً بأمرك، وعذاباً على كل معارضة لك، وكاتم صوت لكلّ من
عاداك ! فهل تنساني بجرّة عمر، او نفخة صور ؟!
عبدك ! عبدك !
دون أكتراث جاء الصوت : ( الآن جاء دورك يا عزرا –ايل )، وأحس بيد تنتزع روحه ...
في آخر شهقات الموت قال : ( آخ، لو كنت أدري أن هكذا كان عذابهم ما كنت فعلت .. ليتني كنت بهم رحيما ! )
***
كان الصمت أثقل من الموت !
والسماء كما الأرض أصبحت بلا ساكنين !
جاء الصوت : ( من بقي من عبادي ؟! )
لكن ... لا أحد يجيب !
ازداد الصوت أكثر : ( لمن الملك اليوم ؟! )
بقي الـ ( لا أحد ) يجيب صمتاً !
قال الصوت : ( الملك لي وحدي أنا القوي القهّار ! )
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء الآداب ملاحم شعرية