ليس الساندويتش اختراعاً عظيماً، لكنه في بريطانيا التي عُرفَ فيها، أَول مرة، يستحقُّ احتفالاتٍ في هذا الصيف، بمرور 250 عاماً على ابتكاره، فالمطبخ هناك فقير، وأَشهرُ أَكلاته التي يُعتدُّ بها طبقُ شريحةِ السمك مع بطاطا مقلية وخضار خفيف، ولأَنَّ الأَمر كذلك، يمكن لبريطانيا أن تباهي بالساندويتش الأُمم، وأَنْ تُشيعَ أَنَّ مواطناً منها صنع أَول ساندويتشة، لما وضع لحماً وخضاراً بين قطعتي خبز، وهو صاحبُ مقهىً مجهول الاسم، وقدمها إِلى الأَميرال جون مونتاغيو لما كان مشغولاً بلعبِ الورق، ثم طلب شركاؤه في اللعب ساندويشاتٍ مماثلة، وسرعان ما اشتهر الاختراع الباهر، والذي أَخذ اسم لقب ذلك الأَميرال، إيرل ساندويتش الرابع، وكان وزيراً ومن النبلاء. وللاستزادة لمن يريد، ساندويتش هو، أَيضاً، اسم بلدةٍ انكليزيةٍ قديمةٍ في مقاطعة كنت في جنوب شرقي بريطانيا، يسكنُ فيها حالياً سبعةُ آلاف نسمة، وكذلك اسم أَرخبيلين في جنوب المحيط الهادي وفي جزر هاواي، أَطلقَ عليهما هذا الاسم مستكشفٌ تكريماً لذلك الأميرال.
إِنْ كان ليس محسوماً أَو مؤكداً أَو مشهوراً ما إِذا كان أَحدٌ ما سبق الأَميرال البريطاني في استهلاك ساندويتشة، أَو ما إِذا كان أَحدٌ أَنجز شطيرةً، قبل صاحب ذلك المقهى البريطاني المغفل اسمُه في تاريخ بلادِه، على الرغم من فرادة صنيعِه، فذلك لا يعني أَنْ ينفردَ الانجليز بهذا الشرف العظيم الذي اصطنعوه، ويستعدون للاحتفال بعيدٍ له. ببساطةٍ، لأَن الإنسان في تدبيرِه أُمورَه وتسليكِه شؤون حياتِه، منذ فجر التاريخ، لا بد وأَنْ جاءَ إِلى باله أَنَّ في وسعِه أَنْ يضعَ طعاماً خفيفاً بين قطعتي خبز، لتصريفِ نوبةِ جوع، أَو لئلا يصرفَ وقتاً طويلاً في الطهي مثلا. ويمكن للمرءِ أَنْ يتجاوزَ أَهل الاختصاص في ثقافاتِ الشعوبِ ومطابخهم، فيحدس أَنَّ عربياً في باديةٍ ما، ذات قرنٍ ما، خطرَ له أَنْ يفعل ما بادر إِليه المخترعُ البريطاني، فوضع، ربما، لحماً بين ثريدتين وأَكله، ثم شربَ لبناً أَو ماءً قُراحاً، للتيسير على معدته.
كأَنَّ علينا أَنْ نأْخذَ برواية الإنجليز الوحيدة تلك عن الأَميرال الذي كان يلعب الورق في مقهى، ومن فرطِ انشغالِه لم يشأ التوقفَ عن اللعب ليتناول غداءَه أَو عشاءَه، فرتَّب له صاحب المقهى الساندويشةَ التي أَكلها. لا يكفي أَنَّ الإنجليز فعلوا ما فعلوا في بلادِنا، وهم الذين قالت عنهم جدّاتنا، بلا عنصريةٍ طبعاً والعياذ بالله، أَنهم والبردُ أَعطل الأشياءِ في الدنيا، إِذ علينا أَنْ نغبطَهم أَولاً على تقديمهم للبشريةِ فكرة السندويتش، ثم نرفعَ إِليهم أَسمى آيات الشكر والعرفان على ما جادت به قريحةُ صاحب مقهى وما قدَّمه لنبيلٍ أَرستقراطي، وحدَه الله يعلم ما إِذا كان صاحبَ شمائل طيبة أَم ذا عجرفةٍ إِنجليزيةٍ باردة. أَظننا، نحن العرب، لسنا مضطرين لمجاملةِ أَصدقائنا ومعارفنا الإِنجليز ومماشاتِهم في غضون احتفالاتِهم المرتقبةِ بالعيد الخمسين بعد المائتين للساندويتش، ذلك أَننا أَصحابُ الفضل الأَهم بين شعوب الأَرض في تطوير هذا الاختراع غير الفذ، ليس فقط في ابتكارِنا الفلافل وتنويعاتِه، والفوليات والحمصيات وأَصنافهما، بل لأَن الطفر الذي ينوءُ بكلكلِه بين ظهرانينا أَياما طوالاً في الشهر الواحد جعلنا نصعدُ بالساندويتش إِلى مراتبَ عاليةٍ في مشاغلنا، فنحشرَ بين خبزتيْه ما يعصى على أَيِّ خيال، أو نرفع أَسعارَه، أَياً كانت جودتُه، إِلى سويّةِ مصروفاتِ اللوردات والنبلاء.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور