لمّا كنا في الدوحة، الشهر الماضي، في مهرجان “وطن يتفتّح في الحرية” الذي جمع مثقفين وفنانين سوريين وعربا في فعالياتٍ تنتصر للثورة السورية، كان بديعاً أن يكون بيننا العلامة هاني فحص (1946)، بعمامتِه الشيعيّة وبشاشتِه. كان الجلوس معه في باحةِ الفندق من مآثر المهرجان، فهو محدِّثٌ رائق، ويجمعُ في مقارباتِه في غير شأنٍ ومسألةٍ بين الظرف والعمق، وينشغلُ فيها بتفاصيل المعيشيِّ ووقائعِه وإِنْ تكلم منظراً. وبدا أَنَّ سماحتَه، وهو الفقيه والسياسي في آن، وأَديبٌ وشاعر وكاتب، كان حريصاً على حضور المهرجان ثلاثة أَيامٍ من أَيامه العشرة، تأكيداً لمشاركته أَوجاع السوريين في محنتهم ومظلوميتهم من النظام الغاشم. وأَظنُّه أَراد أَنْ يُؤشِّر إِلى عقلاءَ في الطائفةِ الشيعيةِ الكريمةِ في لبنان ليست على الموقف الشنيع الذي تُشهره قيادةُ حزب الله بشأن الجاري في سوريا. ويأخذُ التأشير هنا إِلى وصفِهم عقلاءَ وجاهتَه من بيانٍ أَصدره السيد فحص، أَمس، وفيه إِن عددهم يتزايد تباعاً، وهم “يرفضون الإذعان للقريب والبعيد على السواء، ويُجاهرون بأَنَّ إِيران لا تملك حقاً حصرياً في التعبير عن الرأي الشيعي، حتى في داخلِها، تجاه أَحداثٍ لها أَثرٌ متوقعٌ على وجودِهم، وحضورِهم الفاعل في أَوطانهم.... هؤلاء لا يقطعون مع إِيران، بل هي التي تقطعُ معهم”.

صاحبُ هذا البيان الذي تشعُّ فيه الحكمةُ، فتحاويٌّ عتيق من النبطية في جنوب لبنان، تعلَّم ودرس في حوزة النجف الدينية، وفي بيتِه هناك كان يعلق صورة جيفارا. أَقام في إِيران سنواتٍ في الثمانينيات، وكان قد اقتربَ من الإمام الخميني، ووصلَ بينه وبين ياسر عرفات في سنوات الثورة الإيرانية الأولى، ورتَّب زيارة الزعيم الفلسطيني إلى طهران إِبّانها، وكان معه فيها، وشارك لاحقاً في أَنشطةٍ إِيرانيةٍ من أَجل القدس، ويعتبر من أَبرز الفاعليات العربية النشطةِ في قضايا الحوار الإسلامي المسيحي. والإيجاز هنا عن شخص السيد فحص للتذكيرِ بالفضاء الوطني والديني الذي انتسبَ إِليه باكراً، وظلَّ عليه، متَّعه الله بالصحة، وأَبقاهُ ضميراً نقياً، بوصلتُه باديةٌ في بيانِه الجديد، ويُخبرنا فيه إِنه ليس دقيقاً أَنَّ أَكثريةً شيعيةً حقيقيةً أَو نهائية، توافقُ على المسلك الإيراني في الانحياز إِلى النظام السوري. ويقول إِنه حتى لو كانت هذه حقيقيةً وغير مهدّدة بالتراجع، فذلك لا يعني “دفع الشيعةِ إِلى حالةٍ من الفصالِ والصراعِ وتحمل الضرائبِ الباهظةِ في البلاد العربية التي لا تنقصُها العقول والقوى التكفيرية والإلغائية”.

يأتي البيانُ على السنّة والمسيحيين، ولا يأتي على حزب الله، لكنه يبدو تعقيباً مهماً على خطاب حسن نصر الله الذي أَغدقَ فيه على قتلى تفجير دمشق الأَربعاء الماضي، داود راجحة وحسن توركماني وآصف شوكت، مديحاً وتفجعاً أَجهزَ فيهما على أَيِّ ذرةِ تقديرٍ له لدى الشعب السوري الجريح، فلا يقترن شوكت ورفيقاه في ذاكرةِ هذا الشعب بغيرِ الرعب والمذابح والقتل والتعذيب والفساد. ننحازُ إِلى صوت هاني فحص، لأَنه نقديٌّ دائماً، ولأَنَّ معايير أَحكامِه إنسانيةٌ وأَخلاقية، فلا تُعمي أَبصارَه انتصاراتُ حزب الله المقدّرَة. هو يرى الحزبَ يعاني، حالياً، من توقّف المقاومة، وتحويلها موضوعاً سياسياً داخليا، ومن ارتباكٍ إِيرانيٍّ وتوتر الساحة السورية. يشيعُ بعضُهم أَن سعد الحريري اشترى السيد فحص، فيما الرجلُ يشتري نفسه دائماً في كل موقفٍ يجهر به. ولأَنه كذلك، ينتصرُ للشعب السوري، لا لإيران أَو أَتباعها.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   محمود الزيودي   جريدة الدستور