إِجابةٌ مرتجلةٌ منها عن سؤالٍ إِليها من حاخام، في تباسطٍ معه في احتفالٍ بمناسبةٍ يهوديةٍ في واشنطن، جعلت الصحافية الأَميركية، اللبنانية الأَصل، هيلين توماس، تحظى، قبل ثلاثة أَعوام، بشهرةٍعالميةٍواسعة، وبيننا نحن العرب خصوصاً. سأَلها عن حلٍ للنزاع العربي الإسرائيلي، فأَجابت إنه يصير إِذا ما غادر اليهود في فلسطين التي يحتلونها إِلى الدول التي قدموا منها. شاعَ ما قالت بصوتٍ وصورة، ثم دوّى ضجيجٌ لم يهدأْ إِلا بعد ردِّها على مطالبتِها بالاعتذار بأَنها تُبدي أَسَفها، وترى أَنَّ السلام يتحقق في الشرق الأَوسط، عندما تعترف جميع الأَطراف بحاجةٍ إِلى الاحترام المتبادل والتسامح. تُستعاد تلك الواقعة، هنا، بمناسبة وفاة هيلين توماس، الأُسبوع الجاري عن 93 عاماً، بعد خبرةٍ مديدةٍ في مشاكسة عشرة رؤساء أَميركيين، وكانت مندوبةً صحافيةً في البيت الأبيض، وفي أَرشيفها أَنها اعتبرت جورج بوش الابن أَسوأَ رئيس لأَميركا، وأَحرجته بشأن احتلال العراق، كما أَحرجت، قبله، بيل كلينتون ورونالد ريغان بشأن فلسطين وإِسرائيل، وريتشارد نيكسون بشأن فيتنام، ووصفت باراك أوباما بأَنه صاحب ضمير، لكنه لا يمتلك الشجاعة.
حقاً، لماذا لا يعود اليهود المحتلون في فلسطين إلى حيث كانوا في بولندا وأَميركا واليمن وغيرها، كما جهرت هيلين توماس. قال الإخواني، عصام العريان، قبل شهور، شيئاً من هذا الكلام، بشأن يهود مصر تحديداً، فووجه بحملة التشهير إِياها. واقترح الدكتور طلال أبو غزالة، قبل ثلاثة أَعوام، تمويل صندوق عالمي لإعادة أُولئك، غير أَنَّ أَحداً لم يتلقف الفكرة، ولو للتداول الإعلامي والتوظيف السياسي في صراع عويص مع قوة احتلال، أَقامت دولةً في فلسطين، فيما الذي اخترع أُزعومة فلسطين وطناً قومياً لليهود، تيودور هرتزل، كان يُؤثر الأَرجنتين لتكون هذا الوطن، “لأَنها واسعةٌ وثرواتها شاسعة”، وحاول الحصول على موزمبيق والكونغو، وحاور الإنجليز ليعطوه أوغندا، فرفضوا، لكنهم اقترحوها عليه قبل وفاته بعام في 1903، وتبنّاها “دولةً مؤقتةً” في المؤتمر الصهيوني السادس. وثمّة صهاينة أوائل لم يحفلوا بفلسطين، واستحسنوا قبرص، واستكشفوا ليبيا عساها تكون الوطن “الموعود”.
يعني هذا، وثمّة غيره، أّنَّ في وسع نشاطٍ إِعلاميٍّ كبير، فلسطينيٍّ وعربي، أَنْ يثير مسأَلة عودة اليهود إلى حيث كانوا قبل صهينتهم، وقبل استقدامهم إِلى فلسطين قتلةً ومحتلين ومستوطنين، بربطها بأَنَّخرافية أَرض ميعاد هؤلاء بوطنٍ لهم مخرومة، بدليل طمعٍ موثقٍ في أَصقاع أُخرى في إِفريقيا وأَميركا الجنوبية. وعندما تُشيع أَوساطٌ حكوميةٌ إِسرائيليةٌ قضية تعويض يهودٍ عربٍ “مطرودين” من بلادهم، يكون الرد على ذلك بالترحيب بعودتهم، بعد تخليهم عن الصهيونية. وإِذ تبدو هذه الفكرة غير عمليةٍ، إِلا أَنها مشروعةٌ نظرياً، ويجوز طرحها في مواجهة نشاطٍ إِسرائيليٍّ لا يتوقف في إِثارة هذا الأمر. وقد تجدَّد، قبل أَسابيع، حين طرحت العصابة الحاكمة في تل أبيب قضيةً مفتعلةً، سمَّتها أَملاك اليهود المصريين، وقبل ذلك، حين أَقنعت الأُمم المتحدة بعقد مؤتمر، بحث قضية تعويضات اللاجئين اليهود المطرودين، ومنهم 900 ألف “أُجبروا” على ترك دول عربية وإِيران. ... بلا تطويل كلام، ولتٍّ وعجنٍ كثيريْن في هذه العملية الدعائية المكشوفة، هذا صوتُ هيلين توماس يُعلن الحلَّ الأنفع، اخرجوا من فلسطين وعودوا إِلى حيث كنتم. وهكذا، نتذكر هذه المرأَة الشجاعة، مدافعةً في الدوائر الأميركية عن العرب، وبقت، مرَّة، بحصةً في وجه حاخام، فكان الصدى، الباقي حتماً بعد موتها.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور