غادر العالم الجليل نوح سلمان القضاة مكتب مفتي المملكة بعد احالته الى التقاعد بالجبّة التي كان يرتديها وهو يقف على منابر المساجد يخاطب عقولنا وأرواحنا من وحي التنزيل الحكيم والحديث النبوي الشريف.. خلال عمله مفتيا للمملكة وبحكم المنصب تلقى هدايا كثيرة.. كتب ، ساعة ، أشياء رمزيّة تشكل مفتاحا للتقارب بين الزائر ومضيفه.. كان الرجل يوزع الهدايا التي يتلقّاها على موظفي دائرة الافتاء.. حينما غادر الخندق بالجبّة والعمامة ترك الكثير في مكتبه.. ظن الموظفون أنه نسي أخذ بعض الهدايا والتذكارات على اعتبار أنها ملك شخصي يحملها المسؤول الى بيته عندما يغادر وظيفته بحكم التغيير الذي لا يصمد أمامه مسؤول.. أرسلوها الى منزل نوح القضاة فأعادها الى مكتب خلفه في دائرة الافتاء لأنها أهديت للوظيفة وليس للشخص الذي يشغلها.
في العام الماضي أعاد الرجل نصف مليون دينار الى خزينة الدولة وهي فائض عن حاجة ونفقات دائرة الافتاء كانت مقرره لها حسب قانون الموازنة العامّة.. لن يقوم أحد بمحاسبة المفتي لو أنه اشترى بهذا المبلغ سيارتين فارهتين واحدة للبيت وواحدة للمكتب أو أعاد تأثيث مكتبه أو صرف النصف مليون مكافآت للأقارب والمحاسيب.
في العالم المتحضّر تنبّه المسؤولون في البرلمان والتشريعات التي تحكم عمل الموظفين الى خرج معاوية ابن أبي سفيان الذي أرسله الى والده من دمشق (كان الوالي عليها) الى المدينة المنوّرة.. كانت عيون واذان عمر بن الخطاب ترصد قادة الجيوش والولاة في كل أركان الدولة.. اعترض الخليفة الخرج القادم من الفيحاء فصادره من النجّاب القادم به من الشام وأفرغ محتوياته في بيت المال الذي كان خزينة الدولة وبنكها المركزي. وكان رأي عمر أنه لولا وظيفة الولاية ما حصل معاوية الاّ على نصيب الجندي من الفيء في زمن الفتح.
بعد مئات الأعوام من الحادثة سنّت الدول المتقدمة قانون عمر بن الخطاب ولعلّها لم تسمع به.. فما وصلها من تاريخ الاسلام كان ملخصا مشوّشا لبعض المستشرقين والمبشرين الذين حاولوا زراعة الملح ليخرج نباتا بأزهار.. فكل الهدايا الواردة الى موظفي الدولة تسلّم الى وزارة الماليّة لأنها أهديت للوظيفة وليس للشخص.. وهي بهذا تحصّن الموظف من الوزير الى الخفير عن تأثير الهديّة على سلوكه وتصرّفه في عمله تجاه الذين أهدوه وهم يظنون أحيانا أنهم اشتروا ذمته ليدير النار على أقراصهم قبل أقراص غيرهم.
سيدي العالم الجليل.. أحني رأسي احتراما لك.. فأنت وأمثالك أكثر الله منهم استثناء وندرة في هذا الزمن.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور