"لقد بات الشُّعراء أكثر من الجمهور المتلقِّي"، على حدّ قول الفنّان (طلال مدّاح)، رحمه الله، ذات يوم: "...صار المطربون أكثر من المستمعين"!
... ... ...
ذلك أن اختلال المعايير اليوم، واضطراب الموازين، قد جعل الناس جميعًا شُعراء. وفي أتون الفكر النثريّ القائم، باتت الألقاب المطلقة على من يدعو إلى انتماء القصيدة العربيّة إلى جذورها- كوصفه بــ"العموديّة"، أو "التقليديّة"، أو حتى "التفعيليّة"- رصاصاتٍ يستعملها القنّاصة من حماسيّي قصيدة النثر، بما هي مصطلحات هجائيّة. إذ ليست تلك بمصطلحات يعي مطلقوها معانيها الاصطلاحيّة أصلاً، أو يعنيهم أن يكونوا أمناء في إطلاقها وفق معايير عِلميّة، وإنما هي ألقاب نَبْزٍ دارجة، يتسلَّحون بها في أدبيّاتهم، أو لا أدبيّاتهم، لاغتيال فلانٍ أو قمع فلانةٍ ممّن خالفوهم التوجّه. يفعلون ذاك بمن لم يتّفق معهم في إنتاجه الأدبيّ، أو في مواقفه النقديّة؛ من حيث إن الرؤوس هنا تظلّ مقفلةً، والحداثة العربيّة كالديمقراطيّة العربيّة، سواء بسواء، صمّاء، بكماء، عمياء، وإنما تَتَّخذ المصطلحات شعاراتٍ تجاريّة، تُسوِّق من خلالها صُوَرها الذاتيّة، وهواياتها الشخصيّة، وعواطفها النرجسيّة، وما تُحسِن من الكتابة، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر.
لقد كنتُ أوردتُ في كتابي "مفاتيح القصيدة الجاهليّة"(1) أن "بناء القصيدة العربيّة ذاته يشي بأصوله المعماريّة. ذلك أن أسلوب الأعمدة والتناظر، الذي يُلحظ في معمار مدائن صالح، مثلًا، يبدو هو الأساس في الذوق الفنّيّ العربيّ الذي أفرز شكل القصيدة العربيّة؛ حيث التوازن دائمًا والتجاوب: التِّمثال إزاء تِمثال، والعمود إزاء عمودٍ مُشاكل، والإناء إزاء إناءٍ شبيه، والنَّسْر (ذو الشَّرَى= الشمس)(2) لا بُدّ أن يكون جناحاه ممتدَّين متقابلَين، ولا بُدَّ أن يتقابل ثعبانان حول قناع الرأس، جهةَ اليمين وجهةَ الشِّمال، بنمطٍ انسيابيّ واحد، وتِمثال الحيوان على أحد الأعمدة يُجابَه بتِمثالٍ على العمود المقابِل في الوضع الحركيّ نفسه، كلّ منهما يَمُدُّ يدًا على طَبَقٍ دائريّ، والشُّرفات متقابلة في سِلسلتَين، كما يُجعل المثلَّث فوق باب المقبرة مقابلًا بالشُّرفات العُلويّة التي يُشْبه وضعُها مثلَّثًا مقلوبًا. وهكذا، في دِقّة تناظريّة، تُذَكِّر بالانتظام الفنّيّ- شكلًا ومضمونًا- بين صدور الأبيات الشِّعريّة وأعجازها في القصيدة العربيّة. ممّا يدلّ على البنية الذهنيّة العميقة لأسلوب الفنّان العربيّ الموروث(3). ومِن ثَمَّ يمكن التماس جذرٍ أبعد في تاريخ المصطلحات العَروضيّة العربيّة، كـ"بيت"، و"مصراع"، و"تصريع".. إلخ.، بالمناظرة مع الأسلوب المعماريّ لبوّابات المباني بمدائن صالح."
إن قصيدة النثر- من حيث إصرارها على هويّتها الشِّعريّة- إسهامٌ في (لا شِعريّة) عصرنا، بتقويضها مقوّمات الشِّعر. وإذا كان (تزفيتان تودوروف) يُعلن حالة الطوارئ، وأن "الأدب في خَطَر"(4)، فإن "الشِّعر في كارثة". ومعنى "الشِّعر في كارثة" أن "إنسانيّة الإنسان في كارثة". وقصيدة النثر تُنذر بذلك؛ إذ تُنذر بمَحْو الشِّعر مَحْوًا، بخلطها بين "الشِّعريّة" و"الشِّعر"، ومن هناك تقديم كلّ ما اتّسم بدرجةٍ من "الشِّعريّة الأسلوبيّة" على أنه "شِعر"، أي من ذلك الجنس الأدبيّ المسمَّى "شِعرًا"، بطبيعته ووظائفه اللغويّة والقيميّة والإنسانيّة. وهذا لا يعني إلاّ شيئًا واحدًا: إلغاء الشِّعر، بوصفه جنسًا أدبيًّا، له خصائصه ومقوّماته. ثم هي، في السياق العربيّ، إمعانٌ في سَلْب الهويّة، من حيث هي تُوَلِّي وجهها قِبَل الغرب، جاهلةً، أو متجاهلةً، فارق اللغة والحضارة والشِّعريّة؛ لأنها آلتْ على نفسها أن تظلَّ تَبَعًا، متطفِّلة على الموائد، مستوردةً الآلة والفكرة معًا، وشِبه العقل والقلب، مشكِّلةً جوقةً بائسة تحاكي الأوركسترا، ولكن بصُوَرٍ طفوليّة وهزليّة ركيكة.
من التراث العربيّ، قد يصل الأمر إلى مراتع انتحال نصوصٍ عن المتصوّفة، ولاسيما (النِّفَّريّ)، وتسمية ما كان يدعوه "مواقف"، أو "مخاطبات": "قصائد نثر"! ومن الغرب، تسرق بعضُ قصائد النثر العربيّة- عبر نعمة الترجمة- نصوصًا شِعريّة. وهذا يؤكِّد ما قلته، مذ عِقدٍ من السنوات: أن لا جديد في ما يُسمّى "قصيدة النثر العربيّة" سوى المصطلح. بل تَبَيَّن أن بعض النصوص نفسها ليست لأصحابها، ولو على سبيل المحاكاة. ولستُ في حاجة هنا إلى الاستعانة بالباحث التونسيّ منصف الوهايبي، منذ ثمانينيّات القرن العشرين، ولا بعبدالواحد لؤلؤة، ولا بكاظم جهاد، الذي أَلَّفَ كتابًا كاملاً حول ظاهرة الاستحواذ والانتحال، تحت شعار التناصّ، الذي بات مجالاً لدى هؤلاء العباقرة للتلاصّ، في الأدب والنقد معًا(5)! وهنا يتجلَّى أن القطيعة المدّعاة مع التراث هي قطيعة اقتطاعٍ لما عُجز عن تجاوزه، أو سَطْوٍ على ما أعيتْ محاكاته.
ولقد بدأتْ حركة التبعيّة الحداثيّة العربيّة من هناك، أي من التطفّل على نُتَفٍ من التراث، وفتاتٍ من الغرب، ولم تجدِّد حرفًا واحدًا هنا في العربيّة. مستقدمةً- إلى ذلك- ثقافة الموت، والخراب، والعبث، والعنف ضدّ الإنسان وقِيَمه واجتماعه وتنوّع حضاراته، وبحسب نسخة تلك الثقافة، الأميركيّة بصفة خاصّة، تحدوها غاياتٌ أيديولجيّة امتثاليّة، فوق الأدب والشِّعر، وإنما الأدب والشِّعر لديها مراكب للسُّخرة والتوسّل. تسعى في ذلك عاجزةً عن أن تَثِق في كرامتها وإنسانيّتها، على غرار التجربة اليابانيّة، على سبيل المثال، كي تُخَلِّق من معطياتها الخاصّة ما يمثّل ملامحها الشخصيّة، لتُبدع لنا بديلاً عربيًّا، يُضاف إلى الأدب العالميّ، كالهايكو اليابانيّ، التراثيّ الحداثيّ، النوعيّ في نموذجه. وليس بالضرورة أن يكون النموذج المستلهم في السياق العربي من التراث الفصيح، بل يمكن أن يكون من التراث الشعبيّ، الغنيّ جدًّا بألوانه، بحيث يُطوَّع للفصحى ويُطوَّر. ولكن لماذا لا يفعل العرب مثل هذا؟ ولماذا لا يفعلون اليوم مثل أجدادهم الأندلسيّين بالأمس في افتراع الموشّح، أو غير الموشّح؟ لأنهم رضوا منذ مئة عام أن لا تعدو ثقافتهم ثقافة "استيراد"، و"محاكاة"، بل قل: "ثقافة تسوّل"، ركضًا وراء الآخرين، كلّ الآخرين. أمّا تلك الفئة المؤدلجة اليوم، فهي- فوق ذلك المرض الحضاريّ العضال- خصيمة موروثها، بما هي لا تنتمي معرفيًّا أو فكريًّا إلى ذلك الموروث، ولا تُسيغه فنيًّا؛ لعاملٍ بنيويّ، يتمثّل في كونها عنه غريبةً بالفطرة، غربيةً بالتربية، غريبةً بالثقافة والعقيدة والهوى، لا تفقه أسرار لغته، ولا تتذوّق فنيّات أساليبه، ولا ترى ما يراه العربيّ من جماليّاته. على أنها- في الآن عينه- لا تتورّع عن أن تنصّب نفسها حاكمة بأمرها عليه! ولقد بات المعيار في الحكم عليه، أو له، متمثِّلاً في ما يروق في الذائقة الغربيّة، ويحسُن لدى ترجمته لقارئ أبيض، حتى بات قائل يقول- مثلاً دالاًّ: "خلاصة ما أريد أن أقول هي أن الشِّعر العربيّ القديم جميلٌ في موسيقاه اللفظيّة، ولكنه في معانيه ضحلٌ (نسبيًّا). ولو ترجمنا بعض تراثنا الشِّعريّ إلى لغةٍ حديثة لما حصلنا منه إلاّ على: سواد الوجه! إنه يفقد بالترجمة موسيقاه، ولا يبقَى منه سِوى قليلٍ من المعاني العجفاء..."(6) هكذا، إذن، وبهذا المنطق يرى بعضٌ وجوههم وتراثهم! "ضحلٌ نسبيًّا"، والمعيار ما هو؟ هو: أن يشرّفنا لدى السادة البيض! كيف؟ بأن يوضع في ميزان لغةٍ حديثة- غير العربيّة طبعًا- ومترجَمًا! وكأن الشِّعر الغربيّ حين يُترجم إلى العربيّة، أو إلى أيّ لغةٍ أخرى، يحصل على بياض الوجه!
إن ترجمة الشِّعر (الشِّعر) مستحيلةٌ دائمًا، ولا علاقة لذلك بجودة الشِّعر في لغته الأُمّ، ولكن هذا النموذج إنما يكشف لنا عن أن العُقدة كامنة في منشار: "بياض الوجه" و"سواده"، وزُرقة الحديث وسُمرة القديم، و(نحن) الناقصون و(هم) الكاملون! وهو خطابٌ كسيرٌ، غير قائمٍ لا على منطقٍ علميّ ولا على مرتكزٍ نقديٍّ موضوعيّ.
                 
(1) (2001)، "مفاتيح القصيدة الجاهليّة: نحو رؤية نقديّة جديدة (عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا)"، (جُدّة: النادي الأدبي الثقافي)، 65- 66.
(2) رُمز إلى الشمس على واجهة المقابر النبطيّة بمدائن صالح بمجسَّم نَسْر، يمثِّل المعبود النبطيّ (ذا الشَّرَى)، فيما رُمز إليها في بابل وآشور وبلاد الشام ووادي النيل بقُرص مجنَّح. (يُنظر: الأنصاري، عبدالرحمن الطيّب؛ أحمد حسن غزال؛ جفري كنج،  (1984)، مواقع أثريّة وصُوَر من حضارة العرب في المملكة العربيّة السعوديّة: (العُلا (ديدان )- الحِجْر (مدائن صالح)، (الرياض: جامعة الملك سعود)، 24، 43- 44)، مقارنًا بالأشكال والصُّوَر الملحقة بكتابهم؛ موسكاتي، سبتينو، (1986)، الحضارات الساميّة القديمة، ترجمه وزاد عليه: السيد يعقوب بكر، راجعه: محمد القصاص (بيروت: دار الرقي)، 256).
(3) ومن هنا رُبّما تسنَّى فَهْم موقف العموديِّين في النقد العربيّ من شِعر التجديد، لا على أنه محض تعصُّب للقديم، وإنما على أنه يحمل (في بعضه) إحساسًا- لم يَعُوْه هُم معرفيًّا حقَّ وعيه، فلم يُعَبِّروا عنه مباشرةً- بجذورٍ فنّيّة، يمكن أن تَلقَى أصولها في طُرُز المعمار النبطيّ، التي تُعنَى بالتناظر والتشاكل، شكلًا ومضمونًا. أي أن موقفهم ينطوي على دلالةٍ أعمق في الحفاظ على أسلوب الفنّان العربيّ، القائم على هندسة الانسجام والتوازن.
(4) الإشارة إلى كتاب تودورف: "الأدب في خَطَر"، ترجمة: عبدالكبير الشرقاوي (الدار البيضاء: دار توبقال، 2007).
(5) انظر: جهاد، كاظم، (1993)، أدونيس منتحلاً: دراسة في الاستحواذ الأدبي وارتجاليّة الترجمة، (القاهرة: مكتبة مدبولي).
(6) الوردي، علي، (2005)، أسطورة الأدب الرفيع، (قُم: منشورات سعيد بن جبير)، 89.
 

المراجع

thakafamag.com

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  ملاحم شعرية