في أكثر من مناسبة ولقاء شدّد جلالة الملك عبد الله الثاني على النهوض بأداء القطاع العام ليتطوّر بالكفاءة ونوعيّة الخدمات المقدمة للناس واطلاق ثورة بيضاء لتفعيل عمل وأداء الجهاز الحكومي ... خلال ما ينوف عن ستين عاما ً كانت مؤسسات القطاع العام تدير البلد اقتصاديا ً وتوجّه المساعدات والمنح الخارجيّة لتنفق على مشاريع منتجة ومربحة ... نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر ... انجاز مشروع مناجم الفوسفات في الحسا بمعونة الكويت . وقد عمل في هذا المشروع موظفون اسهم وصفي التل بالافراج عنهم من الاعتقال السياسي ... في اواخر العام 1965 أنجزوا المصنع ومكاتب الادارة وقرية العاملين السكنية القائمة حتى الان ... تلاه مشروع قناة الغور الشرقيّة لري عشرات الالاف من الدونمات للزراعة . امتد المشروع حتى منتصف وادي عربه ثم توقف ... كذلك طريق البحر الميت – العقبة لنقل البوتاس . وكانت مساحة المملكة أكبر من الان بكثير مع الضفة الغربية .. كان القطاع العام يفكر وينفذ بابداع حتى أنه ربط طريق القدس وبيت لحم بالبتراء وجرش لاجتذاب ملايين السائحين الذين يزورون عشرة أماكن هامة جدا ً برحلة واحدة ... وأنجز زراعة الزيتون والفواكه اعتمادا ً على مساعدات صندوق الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ... هل نسينا مشاريع توطين البدو وانجاز مطار الملكة علياء ومدينة الحسين الطبية والمدن الرياضية ؟؟ لم يخل ُ انجاز تلك المشاريع العملاقة من محسوبيات وأمراض مجتمع موجودة حتى في الغرب المتقدم ... ولكنها كانت من التفاهة بحيث يتندر الأردنيون بها في شق بيت الشعر وصالونات عمان المتواضعة ... حتى الثمانينات من القرن الماضي كان الفساد صغيرا ً بالقياس لفساد هذه الأيام الذي نظرته المحاكم وتنظره . ولم يكن مستشريا ً حتى تؤسس له دائرة للمكافحة كما هي حال الملاريا والأمراض السارية التي كافحها أجدادنا من موظفي القطاع العام ... في ذلك الزمن عمل كادر من المخابرات العامة في ضريبة الدخل ودائرة الاراضي والمساحة ليكشف عن فساد بالاف الدنانير فقط ... وقد كان الإعلان عنه قنبلة الموسم لعامين متتاليين ... فالرقم كبير في ذلك الزمن وضئيل في زمننا هذا ... كل هذا بسبب الترهل الإداري وغياب الرقابة الشجاعة ليس على الانفاق فقط . بل على الخدمات التي تقدم يوميا ً للمواطنين .
كثير من المقتدرين يضعون ما قسم الله بيد الفرّاش ويجلسون مرتاحين أو يذهبون لقضاء أعمال أخرى ويعودون قبيل انتهاء الدوام لاستلام المعاملة جاهزة ... ليس كل مواطن قادرا على الدفع وليس لكل مواطن واسطة في دائرة يحتاج انجاز معاملته فيها . ثم إن غفوة الموظفين ( من باب تعالَ بكره ) تفتح مجالا ً لهواة الاحتجاج والاعتصام للتخريب ... لا يمكن أن يشغل الملك جلّ وقته بالزيارات المفاجئة ليكتشف ملفات تحوي اسرار المواطنين الضريبية سائبة في الممرات حتى أنه يأخذ منها دون اعتراض من احد وقد كان متخفيا ً ... حتى الان يجب ان يدوخ المراجع بين عشرة مكاتب مع المستودع والدرج ليثبت رقمه الوطني على سند تسجيل ارضه ... فيما الموظف يفتح ملف الأحوال المدنيّة يستخرج صورة المواطن الشخصية مع رقمه الوطني وقيده في الاحوال المدنية مع اسمه الرباعي لينهي ماراثون الركض بين الأروقة ... الأجواء الاتهامية السائدة يجب أن لا تؤثر على تصرف موظف او مسؤول مطلع على القوانين والأنظمة طالما أن مكتب ديوان المحاسبة يجاوره ... وهناك هامش للتقديرات الانسانيّة كما هي حال رقيب السير الذي يكتفي بالتنبيه بدلا ً من المخالفة حسب صلاحيته والمسؤول يجب أن يملك شجاعة رقيب السير واكثر ... الترهل الاداري الذي حذّر منه جلالة الملك ليس خطرا ً على الاقتصاد وخدمة المواطنين فقط ... بل ان استمراره يشكل مرضا ً ينخر في جسد الوطن.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمود الزيودي جريدة الدستور