عرفته منذ ما يقارب ربع قرن ، انساناً هادئاً ، وبسيطاً ومتواضعاً ، لا تجد فيه الا طيبة الفلاح وبديهية الصادق ، وعرفه مثلي جلُّ ابناء "الدستور" ، بحكم وظيفته في الدائرة المالية ، والكل كان يشهد له بالصدق والطيبة والامانة ، لقد كان المرحوم بإذن الله علي الغُصون ، الذي فارقنا امس الاول ، نموذجاً للانسان الذي ترتاح له النفس.

عصر الجمعة الماضي ، عندما دلفت من باب "الدستور" ، شعرت بوجوم يخيّم على المبنى وهدوء مريب يكتنفه ، فلم اقف عند هذا كثيراً ، على اعتبار ان الحركة يوم الجمعة ، عادة ما يكتنفها الهدوء ، ولم تتضح الصورة لي ، الا عندما دخل عليَّ احد الزملاء ، وقال لي: اريد ان اخبرك بنبأ سيىء ، وخلال هذه الثواني القليلة ، لا انكر انني توترت كثيراً ، ملحاً عليه بسرعة الحديث ، فأخبرني بوفاة ابو اسامة ، في المسجد اثناء صلاة الجمعة ، وبلمح البصر ، استعدت في ذهني صورة هذا الرجل الطيب ، عندما كنت اصادفه كثيراً ، وهو يغادر الجريدة كعادته متأخراً عن زملائه ، حيث كان الدوام بالنسبة اليه ، غير مرتبط بساعات محددة ، وطالما امتد الى ساعات الليل المتأخر ، وكنت اداعبه احياناً "يا ختيار بعدك ما روَّحت؟". الواقع ان المرحوم ، كان يتحمل كثيراً عصبية زملائه او إلحاحهم ، في طلب معاملاتهم المالية ، وكان يلاقي ذلك بصدر رحب وبنفس طويل.

وعندما كنت ارى عشرات الملفات على مكتبه ، اسأله لماذا لا يستبدل ذلك باستعماله جهاز الحاسوب ، فكان يقول ضارباً بيده على ملفاته: "الاصل هنا.. وانا احب ان اعيش بين الورق والحبر.. ولا ارتاح لتلك الاجهزة الصمّاء ، فالورق امره بيدي.. ومن يستعمل تلك الاجهزة امره بيدها.. حيث لا يعرف متى تتعطل ، فتنهار الامور كلها" - على حد قوله - .

لقد قضى ابو اسامة اكثر من ثلاثين عاماً في "الدستور" ، ونادراً ما كان يغيب ، ولم يترك على مدار ثلاثة عقود ، الا الاثر الطيب عند الجميع ، وهذا ما يفسر الصدمة الكبرى لدى جميع الزملاء ، الذين وقع عليهم خبر وفاته كالصاعقة. ولكنه الموت ، الذي يأتي بدون استئذان ، وكثيراً ما يختار الافضل ، فتكون مفاجأته موجعة ومؤلمة.

رحل ابو اسامة وهو في ذروة عطائه لمؤسسته ، ولم يتوانَ يوماً عن خدمة زملائه ، بكل تفانْ واخلاص ، لقد ترك رحيله رنة حزن عميقة في صدر كل من عرفه وتعامل معه.

رحم الله علي الغُصون ، المالي المخضرم والفلاح البسيط الذي عاش حياة هادئة ، وكان انسحابه اكثر هدوءاً. وألهمنا في اسرة "الدستور" حسن العزاء ، فقد تعودنا في هذه الاسرة ، على فراق الاحبة ، فجأة وبدون مقدمات.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   محمد حسن التل   جريدة الدستور