قلنا منذ زمن، من حق كل واحد في بلدنا، ان ينتقد ويدلي برأيه بأي قضية عامة، فهذا حق كفله الدستور ويحميه الملك، والنقد ظاهرة اجتماعية مطلوبة، تدل على صحة المجتمع، وغالبا ما يأتي بنية سليمة، لا يقصد صاحبها الا الصالح العام. والنقد مطلوب ايضا، لانه يخلق حالة عصف فكري وذهني في اركان المجتمع. اما الجلد فهو امر كريه، لا يقصد من يمارسه، الا العبث في المجتمع وخلق حالة ارباك، لا تحمد عقباها. وغالبا ما يكون من يمارس الجلد، صاحب نظرة سوداوية، وذا نفسية مريضة تسقط تناقضاتها على المجتمع، فلا ينظر صاحبها الا الى الجزء الفارغ من الكأس.
نتحدث عن هذا، ونحن نرى البعض وقد تجرد من كل موضوعية لازمة، ولم يعد ينظر الى كأس الوطن، الا من خلال الجزء الفارغ، ويصور وضعنا وكأننا على ابواب انهيار تام، ناسيا او متناسيا -بالطبع- الوضع الذي يعيشه الاردن، في منطقة تملؤها التناقضات وتلهبها حرائق الحروب والانقسامات، وصراع قوى العالم فيها وعليها، ويبقى الاردن في هذا الخضم، النقطة المضيئة، وتكاد تكون الوحيدة على هذه الخريطة المظلمة.
ان الدول لا يمكن لها أن تتقدم في غياب إدارة لا تتمتع بالنزاهة والكفاءة العالية؛ فالإخلال بقواعد النزاهة والعدالة وتكافؤ الفرص، من شأنه تقويض جهود الإصلاح والتنمية، لأنه خطر كبير على كل المجتمعات والدول، لا تحكمه حدود جغرافية، وهو عدو الإصلاح ويعيق مسيرة التنمية ويستنزف موارد الدولة وإمكانياتها، ووفق هذا الفهم تأتي جهود محاربة الفساد والعمل على مأسسة منظومة القيم المحاربة للفساد في المجتمع، لتعزيز الثقة بقدرة مؤسسات الدولة على التصدي للفاسدين ومحاسبتهم وفقا للقانون.
ان ما تتناوله بعض وسائل الاعلام في سياق الحديث عن الفساد، دون اي ادلة وبراهين مهنية وموضوعية، اصبح يؤثر بشكل سلبي على صورة الاردن في الخارج، التي تبدو اليوم مهشمة، نتيجة انفلات بعض الإعلام، في تنفيذ اجندات خاصة، تستهدف الاضرار بالمصالح العليا للوطن، سواء عن قصد او دون قصد، فالنتيجة سيان، النخر في جسد الوطن واهدار طاقاته والاساءة لسمعته في الخارج، دون مراعاة الظرف الاقتصادي للدولة، التي تعاني نزيفا ماليا صعبا، نتيجة عدم توفر المساعدات الاقتصادية وارتفاع اسعار النفط في السوق العالمي، وزد على ذلك، ان من شأن انفلات البعض، في الحديث عن الفساد، دفع المستثمرين الى الهروب، وعرقلة جهود جذب الاسثتمار، التي يقودها جلالة الملك، وبالنتيجة فنحن الاردنيين -دون استثناء- ندفع ثمن هذا الانفلات.
لعل اللحظة الراهنة تستدعي من المؤسسات الاعلامية بكل مستوياتها، النهوض بمسؤولياتها الوطنية وممارسة سلطتها الرقابة الحقيقية، في اطار الالتزام بالقواعد المهنية، ومراعاة آداب المهنة، للمساهمة في عملية التنمية وبناء الإنسان وصناعة الامل بالمستقبل، ويجب هنا على المؤسسات الاعلامية ومظلتها النقابية، العمل على توفير كل ما من شأنه، تطوير الاداء المهني والاعلامي، بما يضمن تحقيق الرسالة التنويرية، ولعل موضوع التدريب للاعلاميين، بات امرا ملحا ويفرض نفسه على اجندة المؤسسات الاعلامية، لجهة التعامل والتفاعل مع المعلومة، بعيدا عن هوس السبق الصحفي، وقريبا من مراعاة مصالح الوطن، وبالتوازي الالتزام بالموضوعية والنزاهة، وليس التجريح، او السعي لتحقيق المنافع الشخصية، وتقديم "الأنا المتضخمة".
وتأسيسا على ذلك؛ فان على جميع مؤسسات الاعلام الاردني، ان تضع نصب عينيها مصلحة البلد، لا المصالح الخاصة الضيقة، مع التأكيد على ان النقد الذاتي يبقى مطلوبا، وبخلاف ذلك، فان النقد هنا اقرب الى الخطيئة والسواد، ولا يدخل من بوابة حرية الرأي والتعبير، لأنه يدمر الانجازات والمكتسبات، التي تحققت لهذا الوطن وابنائه.
وثمة فرق بين الحرية والانفلات، ذلك ان الحرية مقترنة ومتلازمة بالمسؤولية، والواجب يقابله حق، وما تبقى هو انفلات وانتهازية وانحدار، وهو ما لا نريده، نريد ان نمارس قدسية حرية التعبير بمسؤولية، وبكل مهنية وموضوعية، لنؤشر الى مواطن الخلل، لا نصمت على الجرح، فنحن نعمل من اجل الوطن الاسمى والاغلى وخدمة مصالحه.
ونحن في الاردن، نتمتع بحمد الله تعالى، بنعمة الامن التي يفتقدها كثيرون من حولنا، فالواحد منا يمشي من الدرة الى الطرة، في اي وقت يشاء، لا يخشى الا الله تعالى على نفسه واهله وماله، في حين، ان كثيرين في دول اخرى في المنطقة، عندما يخرجون حتى الى اعمالهم اليومية، يودعون اهلهم، وكأنهم لن يعودوا، على اساس ان الرجل يذبح على اهون الاسباب واتفهها، او على اسس طائفية وحزبية.
هنا، يقول الواحد منا ما يريد، عبر مئات المنابر المتاحة، ويعطي رأيه، حتى دون ان يزجره احد، ما دام ضمن القانون وتحت مظلة الدستور، ولا يعتدي على حرمة احد، وهذه نعمة غالية وعزيزة ومفقودة من حولنا.
لا ننكر، اننا نمر في ضائقة اقتصادية كبيرة منذ سنوات -وهذا طبعا اذا اردنا ان نكون موضوعيين- فلنعترف انها احدى نتائج ازمة اقتصادية عالمية، بالاضافة الى شح الموارد وتقلبات الاسعار في السوق العالمي، وما الى ذلك من اثار سلبية، على وضعنا الاقتصادي.
علينا جميعا، ان ننبذ عادة الجلد، ونخرج كل من يمارسها من صفوفنا، لاننا -بحق- نعتبر انفسنا في هذا البلد -كما قلنا- نقطة مضيئة في خضم مظلم، وعلينا ان نتخلى عن عقلية الفهم العام -اي الفهم بكل شيء- فترى الواحد منا، يفتي في الدين والاقتصاد والطاقة، وحتى في الخطط العسكرية، حتى كأننا تحولنا الى مجتمع خبراء، اذا اتخذت الحكومة قرارا اقتصاديا -بغض النظر عن طبيعته- لا نفسح المجال للمختصين لمناقشته، بل ترانا جميعا، نتحدث عن الموضوع ونفتي به، وبالطبع، غالبا ما تكون الفتوى مفندة للقرار، وننسى ان للحكومات والدول ظروفا، لا يمكن ان يعلمها الجميع، وهذا ينطبق على معظم القرارات والقضايا الوطنية.
علينا ان نرحم انفسنا من هذا الوضع، وان نفرق بين النقد المطلوب ممارسته، والجلد الذي لا يخدم مصلحة البلاد والعباد، بل يضع العصا بالدولاب، وبالتالي يخسر الجميع.
نحن لا نقول اننا نعيش في جزيرة الاحلام، لكننا ورغم قلة الامكانيات وضيق ذات اليد، لدينا نِعمٌ كثيرة، يحسدنا عليها الكثيرون.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمد حسن التل جريدة الدستور