مرة أخرى علينا أن نعترف، أن جميع الخطط والأفكار والمبادرات، التي برزت خلال السنوات الماضية، للوصول إلى تعامل نموذجي مع الشباب قد فشلت، وما حدث في جامعة مؤتة مؤخراً دليل على هذا.

لقد استطاعت -للأسف- السياسات المتخبطة والعشوائية،أن تحوّل جامعاتنا إلى بؤر عنف، بدل أن تكون مناراتٍ لتصدير العلم، ورفد المجتمع بالقيادات السياسية والمجتمعية، ولكن -للأسف- فشل المؤسسات الاجتماعية؛ سواء الأسرة والمدرسة وكل المؤسسات المعنية في بناء الطالب، قبل دخوله الجامعة، أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، حيث إن المفهوم الخاطئ، للكرامة الإنسانية عند النشء أصبح مشوهاً، كما ذكر ذلك سمو الأمير الحسن، أمس الأول في محاضرته في مؤتمر اتحاد الجامعات العربية، حيث إن الشاب وقع تحت تأثير مفاهيم مغلوطة، في الدفاع عن كرامته وعن شخصيته، وقد تحول إلى قنبلة موقوتة تنفجر على أتفه الأسباب، وتعيث بالمجتمع عنفاً وتدميراً، إذ باتت الكرامة يثار لها عند الطالب، من أجل خلاف على جهاز خلوي مع أحد زملائه، أو بسبب التنازع على الجلوس على مقعد في حديقة الجامعة، أو في إحدى قاعات الدراسة،أو النزاع على صداقة إحدى الطالبات، وكثير من هذه القضايا السخيفة، التي تجرّ خلفها صدامات تمتد إلى خارج أسوار الجامعات، أو «تستنهض الهمم» لاقتحام الحرم الجامعي، ليعاث به تدميراً وتخريباً، والتي تلقي بظلالها البشعة على وجه مسيرة التعليم العالي في الأردن.

إن عملية التلقين في المناهج التربوية، في مختلف مراحل المدرسة، ساهمت مساهمة كبيرة في الحالة التي وصل إليها النشء، حيث أهملت هذه المناهج بناء شخصية الطالب على أسس دينية ووطنية صحيحة، وتركته نهباً للأفكار التي سكنت في ذهنه الصغير، وجعلت منه في كثير من الأحيان نقطة توتر في مجتمعه، بدل أن يكون مشروع لبنة صالحة في «المدماك» الوطني العام، كما أن المفهوم الخاطئ للعشيرة، والفهم المغلوط لمعادلة «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، ساهمت إلى حد كبير في الوصول إلى هذه الحالة التي وصلنا إليها.

كل هذه العوامل وغيرها، شكلت القاعدة التي أنتجت حالة العنف والغضب، التي تضرب جامعاتنا بين الحين والآخر، كما أن أسس القبول في الجامعات، ساهمت بشكل كبير في تشويه الحياة الجامعية، التي يجب أن تكون المطبخ الحقيقي لشخصية الشاب علمياً وفكرياً، قبل خروجه لمجتمعه وحياته العملية.

لقد لعبت الاستثناءات التي لم يعد لها حدود - والتي باتت تشكل عبئاً على مسيرة التعليم العالي في الأردن، كما تشكّل ضغطاً هائلاً على ميزان البطالة والعمالة في البلاد، خصوصاً في التخصصات الإنسانية - دورا كبيرا في الواقع الذي وصلنا له، وهنا لا بدّ من التذكير والإشارة، أنه يجب إعادة النظر، وبأسرع وقت، في طريقة الاستثناءات في القبول الجامعي، حيث يحصل فقط على المقعد الطالب المتفوق، والذي يؤهله معدله للقبول في التخصص الذي يريده، أما أن تكون الاستثناءات بغضّ النظر عن المعدلات، فهذا أمر فيه خلل، حيث إن المعروف، أن الطالب الذي يكون معدله على حدّ النجاح فقط، يكون هذا الحال مؤشراً على سلوكه العام.

نقولها بوضوح: إن الاستثناءات يجب أن تركز على المعدل، وأن تقوم الدولة بتوفير مقعد، من خلال المكرمات، للطالب الذي يؤهله معدله لذلك، لأننا بتنا بصراحة نسمع الكثير من أولياء الأمور، أن ابنه مرتاح في التوجيهي لأن مقعده مؤمن، وأن التحصيل الدراسي في الثانوية العامة، لم يعد أولوية عنده، من باب أن الأمور منتهية لديه في القبول الجامعي، وهذا بالطبع يؤشر على خلل عام في السلوك، كما ينعكس في المستقبل على نظرة هذا الطالب إلى الجامعة، وهذه النظرة تكون إحدى صورها وانعكاساتها الكبيرة، العنف وعدم احترام الحياة الجامعية والقوانين، كما نرى الآن في كثير من جامعاتنا.

والخطأ الآخر الذي وقع في عمليات القبول في الجامعات، يكمن في توزيع الطلاب على هذه الجامعات، إذ أصبح ابن اربد يدرس في جامعات اربد، وابن السلط كذلك يدرس في السلط، وابن الكرك يدرس في الكرك وهكذا، الأمر الذي ألغى فكرة تفاعل أبناء الوطن مع بعضهم، وبالتالي تحولت الجامعات إلى مدارس كبيرة، خصوصا إذا علمنا أن معظم الهيئات التدريسية في الجامعات تكون من أبناء المنطقة نفسها، إضافة إلى الأمن الجامعي والموظفين الإداريين.

في الماضي، كان طالب الكرك يدرس في اربد، وطالب اربد يدرس في الكرك، أو في عمان وهكذا، الأمر الذي كان يساعد الطالب على توسيع مدارك تفكيره، من خلال اختلاطه بأنماط تفكيرية جديدة، تساعد على توسيع مداركه الثقافية.

نحن بحاجة إلى إعادة انتشار للطلبة، وللهيئات التدريسية، لنستطيع تحقيق مبدأ التفاعل الوطني بين الأجيال، وحتى الموظفين الإداريين في الجامعات بحاجة إلى إعادة نظر في توزيعهم.

لقد تراجع التعليم العالي لدينا نتيجة ظروف كثيرة ومتعددة وأحياناً عبثية، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من حالة كارثية مزرية، إذ أصبحنا من الطبيعي أن نجد خريجاً جامعياً شبه أمّي، لا يجيد القراءة والكتابة حتى بالعربية، ولا يعرف حتى الحدود الجغرافية لبلاده، كذلك لا بدّ من الإشارة إلى أننا أهملنا في السنوات الأخيرة قصة الحصول على الشهادات العليا، حيث إن المئات من الذين دخلوا للتدريس في جامعاتنا، من حملة الماجستير والدكتوراه، معظمهم من جامعات ضعيفة غير معترف بها، من دول متخلفة في كل شيء، وهنا وقع الخلل الآخر في مسيرة التعليم العالي، لقد كان عضو هيئة التدريس في جامعاتنا، يقضي معظم عمره للحصول على شهادة الماجستير والدكتواره، من الجامعات الفرنسية والأميركية والبريطانية وحتى الاردنية، وبعض الدول العربية ذات التاريخ العريق في هذا المجال، حتى يتسنى له الدخول إلى سلك التعليم العالي، أما الآن فحدّث ولا حرج، عن أنصاف الاميين الذين تبوأوا منابر التدريس في الجامعات الأردنية، الأمر الذي انعكس سلبا وبشكل كبير وخطير على التعليم العالي عندنا.

نحن أمام واقع صعب في الجامعات، ولكن الفرصة ما زالت قائمة لتعديل المسار، والعودة إلى ذلك الألق الذي كنا نفاخر به الدنيا في هذا المجال، من خلال تعديل أسس القبول، وتعديل مسار الاستثناءات، واختصارها للحد المقبول الذي لا يؤثر على التنافس الحر، كذلك تفعيل القوانين الضابطة لسلوك الطالب، والأستاذ الجامعي، وكافة العاملين في الجامعة، والابتعاد عن أسلوب الفزعات عند كل مشكلة تواجهنا في إحدى الجامعات، ونعود لنضع رؤوسنا في الرمال بعدها، ولا نصحو إلا على معركة جديدة وقد انفجرت في إحدى جامعاتنا، ولا بد من إعادة مفهوم العمل العام في الجامعات، وترسيخه في أذهان الطلبة، سواء من خلال الحياة الحزبية الراقية، التي تغذي فكر الطالب بالثقافة، وحسن التعامل مع الآخرين، وتقوي عنده روح الحوار، وكذلك العمل على توليد علاقة قوية بين الطالب والنشاطات العامة في الجامعة، تلك النشاطات التي تخاطب تنمية روح الجماعة عنده، بعيداً عن العصبية الضيقة، والنزق المؤذي الذي بات سمة من سمات طلابنا في الجامعات، والأهم من ذلك كله إعادة الهيبة إلى القانون، بكل أنواعه، ومحاربة الاستخفاف به، والابتعاد عن تقديم أخذ الخواطر على تطبيق القانون، والضرب بيد من حديد، على كل من تسوّل له نفسه العبث في النظام العام .


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   محمد حسن التل   جريدة الدستور