لم يكن حوار جلالة الملك قبل ثلاثة أيام، مع وكالة الأنباء الفرنسية، يحتوي على تحوّل جديد في الرؤية الملكية، بخصوص مسيرة الإصلاح في البلاد، ولم يكن انقلابا على واقع، بل كان تأكيدا جديدا وعزما ملكيا حاسما، على رؤية جلالته للإصلاح في الاردن، حيث إن الملك عبدالله الثاني وضع رؤيته بين يدي الجميع، منذ فترة طويلة كمعالم خطة طريق للبرنامج الإصلاحي، على مستوى الوطن: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ولكن كنا نحن بمختلف فعالياتنا السياسية والشعبية والإعلامية، قدعجزنا عن مواكبة هذه الرؤية الملكية، وانحاز كل منا لرؤيته الشخصية بل بالأحرى لمصلحته الشخصية، وكل منا كان يريد الإصلاح على مقاسه، وحسب طموحاته وربما أطماعه.
اليوم يقف الشارع الأردني، بكافة اتجاهاته وفئاته، بقيادة الملك للعبور إلى محطة جديدة في الإصلاح، وذلك نتيجة الإصرار الملكي على المضي في هذا الطريق، رغم كلّ ما قيل وكل ما تم اجتهاده إزاء هذا البرنامج، ورغم كل محاولة العرقلة، إلا أنه -كما قلنا- كان إصرار الملك أقوى من كل شيء، لأنه يدرك أن مصلحة شعبه، ومصلحة وطنه، ومصلحة مؤسسة الحكم، تكمن في تنفيذ برنامج إصلاحي متطور شامل، على كل الصعد، يحاكي مستجدات العصر التي طرأت على تفكير الشعوب، والأجيال الصاعدة، وللحقيقة فإن الملك عبدالله الثاني، منذ أن تسلّم سلطاته الدستورية منذ ثلاثة عشر عاما، وهو يعمل على نقل البلاد نحو تحول جديد، بأطر إصلاحية متدرجة، ليضمن لشعبه الحاضر، ويُؤمّن لهم بإذن الله تعالى المستقبل.
وجاء حوار جلالة الملك الأخير، كإعلان نهائي عن بدء المرحلة القادمة في البرنامج الإصلاحي، وهنا نقول: «المرحلة القادمة»، إذ أنه من الخطأ اعتبار أن الانتخابات النيابية القادمة، هي نهاية المطاف للإصلاح، ولكنها محطة مهمة على هذا الطريق، ومفصل حساس في المسيرة الإصلاحية...
ومن يظنّ أن صباح إعلان نتائج الانتخابات، سيجلس في بيته، ويعتقد أننا انتهينا من الإصلاح، فهو مخطئ، ولا يملك أيّ ثقافة سياسية، لأن الإصلاح عملية مستمرة، ما دام هناك حياة وتطور مجتمعي.
تحدَّث جلالة الملك في حواره الأخير، عن الربيع العربي، وظلاله على الأردن، وحقيقة أن الأردن اجتاز أدق مفاصل الربيع العربي، وأصعبها بثلاثة عوامل رئيسية، أولها: التفاف الناس في الأردن حول نظامهم، واعتبار مؤسسة العرش خطاً أحمر، وسقوف مطالبتهم بالإصلاح لم تتعدَّ هذا الخط، وأن كل من كان يحاول اجتياز هذا الخط، كان يلاقي صدودا كبيرا من الأردنيين على اختلاف مشاربهم، والعامل الثاني: هو حكمة الملك، حيث أدار الأمور بثقة وحنكة عاليتين، وأفسح المجال للجميع لإبداء آرائهم من خلال سياسة الأمن الناعم، التي اتبعتها الدولة بإرادة القيادة العليا، وقد شهد الأردن خلال العامين الماضيين آلاف الاعتصامات والمسيرات، دون أن يحدث أي أذى لفرد، أو يُكسر ولو زجاج، إلا بعض الحوادث المحصورة، والتي كانت علامات قليلة ناشزة مرفوضة من الذهنية الأردنية، إضافة إلى الجدية المطلقة في الإصلاحات التشريعية، التي مهّدت الطريق لمشروع الإصلاح الشامل، وعلى رأسها التعديلات الدستورية، ثمّ منظومة القوانين الأخرى، التي تضمن الانتقال بالأردن لأجواء جديدة من الحرية، ومساحات أكبر من العدالة، والمشاركة العامة في اتخاذ القرار.
الأردن سيعبر مرحلة جديدة، وسيتوِّج ربيعه بانتخابات نيابية، كما أشار الملك، والتي ستكون بداية العبور إلى الصيف الأردني، الذي سيكون نموذجا للجميع في المنطقة، ومن يرغب بالمشاركة في تغيير الأردن نحو الأفضل، فعليه المشاركة في هذه المسيرة، من خلال اندماجه ومشاركته الفاعلة، في انتاج مجلس نواب قوي يعبر عن آمال وتطلعات الاردنيين، حيث تشكل هذه الخطوة الفرصة الكبيرة للجميع، ليكونوا شركاء في صناعة الأردن الجديد ومستقبله، وبالتالي الوصول إلى الحكومات البرلمانية، حيث ستكون هذه الخطوة نقلة نوعية في تاريخ الأردن الحديث، كما ستكون الانتخابات النيابية القادمة، القاعدة الصلبة لهذا الطموح.
ربّما لا يرتقي قانون الانتخابات، الذي أقرّ مؤخرا في مجلس الأمة، إلى طموح كل مواطن أردني بشكل كامل، لكنّه يعتبر نقلة جيدة على الطريق، لإطلاق المسيرة نحو التغيير المنشود وطنيا.
كنّا نتمنى أن تشارك جميع ألوان الطيف السياسي الأردني، بهذه الملحمة الإصلاحية، لكن يحزّ في النفس إصرار الحركة الإسلامية، على موقفها السلبي من القانون، وبالتالي قرارها بالمقاطعة، الأمر الذي يحرمها من المشاركة في مسيرة التحول نحو الأردن الجديد، بعملية سياسية تاريخية ستكون مشهودة، ولا يمكن تفصيل برامج الإصلاح الوطني، على مقاس حزب أو جهة بعينها، والإصلاح كما نفهم عملية تراكمية مستمرة دائما، والذكي من يشارك ويغلب برأيه على الآخرين، من داخل المؤسسات التشريعية، عبر لعبة الديمقراطية الشرعية، والأغلبية النيابية.
ولا يُمكن لأيّ فئة أن تبقى في الشارع، لأجَلٍ غير معلوم ولمدى مفتوح، ولا يمكن لأحد أن يفرض إرادته على الناس والدولة، من خلال الشارع، فالمواجهة الحقيقية تكون في صناديق الاقتراع، وتحت قبة البرلمان، فالصوت العالي لا يمكن له أن يستمر مهما كان عزم صاحبه، لأنّ الواقع الجديد في التغيير نحو الاصلاح، سيفرض نفسه على الجميع، وهنا يبرز دور الإعلام الوطني الحر، الذي يجب أن يوازي بين الحرية والمسؤولية، وبين الحق والواجب، بعيدا عن الإثارة السريعة والخاطفة، واصطناع الأزمات من قبل أصحاب الأقلام، الذين امتهنوا فقط الكتابة عن الأزمات، ونَصَّبوا أنفسهم مرشدين روحيين للشعب والدولة.
لقد كان الملك واضح الرؤية، وصافي الذهن، عندما خاطب كل الأحزاب والقوى السياسية على الساحة الأردنية، حيث وضع يده على المفصلين المهمين في مسيرة الإصلاح الوطني، حينما حدد الوسيلة والفرصة، لكل من يريد المشاركة في التغيير نحو الأفضل على المستوى الوطني، أما الوسيلة فهي متمثلة في البرلمان المنتخب، على أسس من النّزاهة والشفافية، والتي ضمنها الملك نفسه، والفرصة للوصول إلى هذه الوسيلة، هي المشاركة الفاعلة في الانتخابات القادمة، لكل من يريد الإصلاح لهذا البلد ويرغب فيه.
لقد أشار جلالة الملك أكثر من مرة، إلى أنّ كلّ ما تمّ إقراره من قوانين على طريق الإصلاح، وأولها التعديلات الدستورية، ليس نهاية المطاف، فقد ترك الملك الباب لمجلس الأمة القادم، ليضيف كل ما يرى فيه مصلحة للبلاد، من خلال مراجعة التشريعات، دون تحفّظ أو خطوط حمراء.
إنّ الأردنيين شعبٌ عاش وتربى على الصمود أمام التحديات، مهما كانت صعبة ومعقدة، وتاريخهم شاهد على ذلك، ولا يراهن أحد على إرادة هذا الشعب، التي أثبتت السنون أنها إرادة صلبة، لا تلين أبدا أمام الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو غيرها، وواهمٌ من يظنّ أنّ الأزمة الاقتصادية التي تعبر البلاد، ستُغيّر من أطباع الأردنيين، ومواقفهم وتلاحمهم مع بعضهم، وحبهم لوطنهم ودولتهم، نعم الأردن يعاني من أزمة اقتصادية تكاد تكون خانقة، سببها الرئيس مشكلة الطاقة لدينا، والتي شكّلت كما قال الملك: «قيدا خانقا على الميزانية العامة»، وهنا يأتي الحديث بصراحة عن موقف العرب تجاه الأردن، في هذه القضية بالذات، إذ يُلحّ علينا السؤال الكبير: لمصلحة من يترك الأردن وحيدا في مواجهة هذه المشكلة، وهو شريك لكل العرب بل وسند منيع لهم في كل القضايا القومية؟
.
فاتورة الأردن النفطية، تُمثّل للعرب نسبة ربما لا تصل إلى واحد بالألف من ميزانياتهم الضخمة، ومع هذا يُترك الأردن ليغرق في هذه القضية، التي تهدد أمنه الاقتصادي والاجتماعي، وهو الذي لن يتردد يوما في أداء واجبه القومي والإسلامي، إزاء أي كان من أبناء أمته، وما يجري الآن في الأردن، من استقبال كبير لآلاف اللاجئين السوريين، الباحثين عن الأمان على أرض الأردن، أوضح دليل على أن هذا الوطن يشكل للعرب دائما بوابة الأمان، وخط الأمن القومي والاستراتيجي.
لقد شكّل حوار جلالة الملك الأخير، مع وكالة الأنباء الفرنسية، معالمَ واضحةً لخطة الطريق، خلال الفترة المقبلة على طريق الإصلاح الشّامل، في وطن يشكّل رغم كل الصعوبات التي يواجهها، والتناقضات التي تضرب معظم الدول حوله، علامةً فارقةً في الاستقرار، فهل وصلت رسالة الملك بكل مفاصلها، لكلّ من يُهمه الأمر فينا؟ | .
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة محمد حسن التل جريدة الدستور
|