تركت الوطن خلفها .. الى اين .. الى دروب الخوف .. يسكنها ريح البُعـد .. ممزقة الروح .. تتوارى خلف الصمت بخطوات مثقلة مع لحظة هذيان وغابات أحزان .. تصفعها رماح الزمن .. أسطورة الحرف تحرق الضوء .. تبحث في أروقة الذهول .. تتبعثر الحروف وتدخل من عتبات الآهات ... رياح الجنون تتموج داخل دوائر الأزمنة .. تبحر عبر خطوات أرصفة الرحيل .. تسافر مع الطيور المهاجرة مذهولة .. تسمع صداها يرتطم بين الضلوع .. فتمتطي صهوة الوداع ...
ربطت ُ الأشياء بالأشياء
كي لا تسقط الثمار
لكنها
تعفـّنت
وسقطت
على رياح الجنون .
كأني أرى خطواتي تتنقل
بين القلب والشرايين
مذهولة , سمعت صداها
وداعا ً
ودا..ع
وعدت ُ أثلم رغيفا ً
خبّاه لي السهر..
أسر ّكم..
أن العالم ضيق ٌ
يلتصق
في ابرة السفر.
تراسل جدتها وتكتب لها حروفا ً مبعثرة تبحث من خلالها عن جملة مدهشة .. ترى الزمن يسقط من يديها حين تغيب النجوم عن سمائها وكأن الجميع يتجاهل غيابها .. تشعر كأنها مجرد ثقب أسود .. ترتجف الطرقات تحت قدميها وعيناها تصارعان دموعهما والحياة مجرد كوّة نصفها زفير والنصف الآخر ضياع .. تعرف وطنها كمعرفة نفسها وتعرف الماضي أكثر رأفة من المستقبل .. تجولت بمخابئ الروح باحثة عن مكان آمن يقرأ شحوب ملامحها , تعثرت في خطوتها عندما سألها خاطرها عن أسمها .. تهيأ لها انها سمعت الصوت الذي يتتبّعها لكنها لم تراه ...
سوريا أول محطاتها وأول اللقاءات مع المصير المجهول .. توقعت أنتهاء الطعنات بعبورها حدود الوطن .. لم تدري أن خارطة الحزن واسعة وأن للسفر أسرار ...
تقول وفاء عبدالرزاق في احدى لقاءاتها :
" رحلت والعراق في قلبي .. كان وما يزال جميلا ً .. لذا أكتب بالجمال أكتب لنهري دجلة والفرات .. أكتب للبصرة , لأرض النقاء , الجنة الغضة الخضراء في أرض الله الجميلة .. وحين رحلت كان معي هما ً أنسانيا ً وهما ً وطنيا ً .. كتاباتي كلها يتجسد فيها الأنسان " ...
تمسك بالليل وتحط أول قدم على عتبة الطريق .. تصرخ اعماقها وترى العتمة على الحوائط والأبواب .. تصمت .. تثور .. تهدأ .. تسترجع ماضيا ً يوقظ الشجر .. تتعرف على وهم بين حقيقة وهمية وعيناها تدوران حول الأشياء كلاجئ ترنحت أرجل غربته .. في محنة البحث حانت ساعة اللقاء .. تلتقي بعباس منتظرا ً .. كل ٌ يتفقد خطوط الزمن في الآخر .. كل شيئ له طعم المنفى وشكل الظل ّ ..
أنتهت الحاجة أم عباس من صلاتها .. هللت .. ( مليون هلا ومرحبا برائحة أهلنا , يا هلا , يا هلا ) ...
كان العراق ( بشيلتها ) والفرات بخديها يحترق ودجلة في عينيها تشتعل , شط العرب ينـز ّ من عروقها يحتضن أبعد قلب ... عدّ لت عصّـابتها وأبتسمت ثم أحتضنتها ...
في رواية " أقصى الجنون .. الفراغ يهذي " تحدثت وفاء عبدالرزاق عن العراق فترة الحصار , والفترة التي هجر فيها العراق مبدعون وهم أصحاب الوطن الحقيقيين الذين هربوا وعاشوا بأسم العراق ...
أسمائها أوراق خريف تنتهي الى رعب الريح .. لا يدركها الا اليأس الذي بات منتصرا ً عليها .. يرتجف الرحيل بداخلها وترتعد أوصالها .. وصلت الى لندن عبر مراكش .. يمر الوقت بطيئا ً وهي تحمل وطن القيد والتعب وحليب أبجدية تحتسي رذاذها وحيدة وبعيدة تكتشف معنى الحروف .. يطويها الليل في كل وقت وفي كل زمان رغم كل مساحات الجراح التي تكبر في داخلها ..
" تسألني الخيمة عن أوتادها وأسألها عني , عن القلق في الوجوه وعن لندن التي فردنا أيامنا بها كبساط وحاصْرن الخوف .. كبرنا على الدموع والمجهول وطوعا ً ألفنا المكان .. تعددت الأسئلة وشحـّت الأجوبة وتعايشنا مع الهواء الغريب , هم يسألون وأنا أرد , أنا أصوغ أسئلتي وهم يجيبون " ...
تتنفس ألما ً .. تنام على حد قلقها .. تترك الهواء يعيدها الى واقع مريض وضلع متوّرم بقيحه .. ولدها الذي يغتسل بمرضه ويتغطى بشرشف أبيض وحمى ّ تشهد على قسوة العالم وتتنبأ بالمصير القادم .. الأمصال شحيحة والثمن يدرك لعبته ويقتلع أجنحة صباحاتنا ليستعيد شركا ً آخر يضمد به مرضانا .. تبلل شفتيه بقبلة ندية بنارها , وتمسح عرقه وتلعن محـّول الكهرباء وتغطس منديلا ً في ماء بارد وتتركه يحضن جبينه في محاولة أستجداء نسمة باردة .. تسمع لهاثه وتشم رائحة روحها المذبوحة والمليئة بالمشاهد بدءا ً من المستشفى وانتهاء ً بمنشار يقطع أوصالنا ويسحق عظامنا ..
عجزت عن معالجة ولدها في البصرة ويرشدها أغلب الأطباء للذهاب الى بغداد , قصدت بيت أختها " أم عوني "  في الحلة .. فتحت لها الباب مجللة بسوادها .. عانقتها وبكت .. أهتز بكاؤها عندما علمت ان عوني رُمي بالرصاص أمام عين أختها دون شهادة أو كفن ...
تتضرع لمدينة تراها زجاجة حارقة .. حتى اذا فرغ صبر صباح مر وجاءها صباح أكثر شراسة ومرارة تأكل الكتف وتترك الجلد معلقا ً على عظامه .. ترافقها أختها من مدينة الحلة الى بغداد غامضة بصبرها راغبة بشفاء ولدها .. تمنح نفسها صبر أيوب تثور خمسة عشر يوما ً بجراحاتها الفاشلة ...تقرر ان تضع كلاما ً جديدا ً .. أختارت أبجدية اخرى ...
" ما الأمر , دكتور قل لي بصراحة ؟
- أصارحك ِ , اننا قدمنا أقصى ما بوسعنا , لكن أنقطاع التيار الكهربائي وعطل المحولة اثناء الجراحة أربكنا , فأتممنا العملية على ضوء الشموع والفوانيس والعرق يصب كالنزيف من جباهنا واحتمال حدوث خطأ وارد , فالضوء لا يكفي لنتمكن من امتداد القيح الذي وصل العظم واتلف الرئة ومن الصعب أستئصال الأورام وتنظيف المكان جيدا ً " ...
الشمس متصلبة .. أسلاك الكهرباء والمباني تصم آذانها لصراخها .. حفرت قدماها طريقهما وأختها تتبعها ..
عطس ولدها .. ثم تنفس دون ان يعيد النفس .. الطرقات تدور من حولها .. الشجر بارد يحرث أعضاءه ..
حملت ولدها الرخو بين يديها وطفت بغداد .. تركض .. تعدو .. خلف الرجال .. خلف المدارس والبيوت ,
خلف دور الصحف , والعيادات والصيدليات وحول نفسها تدور ..تحلق في هواء لا تعرفه وبأقصى الجنون
والفراغ يهذي ...
وتنهي الكاتبة الرسالة الأخيرة رقم " 22 " والمرسلة الى جدتها .. تتأمل نفسها عندما تغفو ورأسها في حجر
جدتها .. ويد الجدة على قلبها وتحتويها ضلوعها وتشم ّ عطرها ورائحة الحناء في شعرها ..
" حفيدتي , تصبري , وكوني نفسك ِ في أية ضائقة أو مصاب , حين تكونين أنت ِ كما أنت ِ يأتيك الليل طائعا .
سيمضي الوقت ويعرف الجميع انك ِ كنت حقا ً وسيبقى الحق في عينيك ِ ,,, ما هم الا كراس وأوسمة وأنت ِ الأرض " ...
تباغت الظل تحت الأشجار وتراقب الغيوم وفي داخلها أحساس مسموم .. تتذكر المطر المتساقط على النخيل والمزاريب والأبواب والطلع , وشارع الكورنيش .. تجلس ساعات طوال من أجل الحب ومن أجل أرض تحمي قدمها من أعوجاج الطريق .. ثم تعود أدراجها ...
* وفاء عبدالرزاق , رواية أقصى الجنون .. الفراغ يهذي , دار كلمة , مصر , 2010
* نشرت ضمن إصدارات مؤسسة المثقف العربي , تكريم وفاء عبدالرزاق ( أفق بين التكثيف والتجريب ) . 

المراجع

almothaqaf.com

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع