الحكمة والجمال وحلاوة التجاذب في الأسئلة والأجوبة عليها ، والأخذ والرد المطرد بين طيرين حلَقا إحداهما قبالة الآخر في ليلك العاطفة الجامحة الذي يشكل فضاء مشحون بالتوتر والغليان ويتجاوز حد العناق المقدس في أبهى صوره ، باشر الشاعر صقر عليشي في مجموعته التي أسماها ( الغزال ) محافظاً على الانطباع الأول لمعاناته التي بدأت ظاهرة جلياً في قصائده وصوره التي لا تنفك ملازمة على أسلوبية اللغة واستقرارها ، حيث العلاقة بين الكلمة والأخرى التي تشكل المعنى ، فهو يحلَق عالياً في عالم الذات والنشوة الروحية راسماً في هذا المسار خطابه الشعري المبدع ومعبراً عن الوجع الكامن في ذاته المعذبة ، فهو يتفنن في بناء نصه بصورة ملحوظة وعذبة لا يمكن تجاهلها ، حيث تدخل في ذائقة المتلقي الذي يحس به وهو يعقلن الإحساس المترابط معه ، فالنص كما أرى نص يفلت من قيد الزمن ليطل على واجهة المستقبل !!
فهو يربط بين المغزى والمعنى ويطوف بين التعبير الدقيق المبدع في حلاوة الإلقاء والتفرد بين الجمع وصياغة اللحن الآسر في لحظة تحرك الشوق المنبعث من قلب مرهف يحفر بأزميله صورة غزاله على جمرات الحجر المرمري ب ( تاريخ ما) وهو يصور فيه المعنى الدقيق الذي يتجسد في رقود أسمها وشخصيتها في الذاكرة التي لا تنسى خوالج هذه النزعات العاطفية ، ويصف هذا الرقود كما العصافير تنام وترقد في أعشاشها عند الغروب بين طيات أغصان الشجر ، وكما دمعة المشتاق الذي يرف قلبه إلى أحباب في الغربة ، وكما الصوت المنبعث من بين الأوتار التي تعزف الألحان الحزينة الموحشة ، وكما ينام أسمها وجسدها في قلبه بطيات النقش على الحجر منذ آلاف السنين !!
ويظل يسطر وجودها بين ذائقة اللقاء الذي على ما يبدو لي إنه لقاء بعد انقطاع طويل تناول فيه العتب الذي راح به بعيداً بين خلجات السؤال الذي تمنطق في الوصف والعتاب بينهما بينما السؤال يذرف كل مدامعه من بين الجفون التي تقرحت هي الأخرى من فيض الأسئلة كما في قصيدته ( عواقب الحرير ) الذي يصف بها دقة اندماجه السريري بين قلبين دمجتها حلاوة الحب الدافئ الذي تجلى فيه الشاعر بالوصف الدقيق من هذه الفصائل والمرويات والمحادثات التي أسهمت في بناء هذه المواويل والأغاني التي كلما وصلت إلى الحد الذي يشتعل فيها أوار الحريق ضاق على الشاعر معرفة ما وصل إليه من ثمرات هذا اللقاء ، وتاه في منزلق الحب الجامح الذي يصهر قلبه ويجعل منه إنسان مريب ، حتى لا يستطيع معرفة خلجاته تجاهها ، وكيف وصل بحبها إلى قامات الشموخ وهي في هذا الريب منه ، فتعانق بسؤالها .. كيف وصلت به دروس الغرام ؟ حينما تذكره بين الرصافة والجسر ماذا جلبن عيون المها ّ!!
بينما يظل يدرج كلام العتاب والأسئلة التي لا تكاد نتسد الرمق عندها تستشيط غضباُ وتقول :
( أنا لست رقماً ... وما كنت رقماُ
فلا تنسى ذلك !! )
ويحاول الشاعر هنا أن يمتص غضبها بالرد عليها :
( وما رقم حظي إذن !! )
وحقاً أن ما يكتبه الشاعر ويصوره لنا في قصيدته الغزال تلك الرعشات المتأتية من جسده الذي يقف مرتعشاً كنخيل العراق عندما تهب عليه العواصف !
فهي قصيدة تحمل معها الكثير من ضروب الفن ورموزه التي تبعث الغايات في النفوس المعذبة ، وتجلو غبار الزمن عن الوجوه الكالحة التي ألمها الحب والغياب في إرهاصات التوتر في مخانق النشيد الذي يعزفه عليشي على أوتار آلته الحزينة ، فهو يزاوج الظواهر التي يضعها في هذه التركيبة ليجعل منها جسداً واضحاً ، ومعلماً شامخاً ، واصفاً علاقات التفاعل التي تنتجها هذه المساجلات بينهما لتلتقي معاً في المستويات اللغوية حتى يستقيم المعنى والفكرة في ذهنية المتلقي لغزالية الشاعر صقر ، وما تعج به ذاكرته المبدعة في نشاطه التخيلي والوصف الذي يجري بين أوتار آلته اللامعة التي تمور بنزعات نفسيته المعذبة فيقول :
( ومن هذا الذي سوف يفهم دمعك
مثلي ويشرحه للسماء ،
ومن سوف يحفظ عن ظهر قلب يديك ..
ورجليك والمنحنى وتلال الضياء ،
ومن هو هذا الذي سوف يكتب فيك
كهذا الغناء !! )
ويستمر الشاعر في مساجلاته معها بين الرفض والقبول حتى يستدل على قصيدته التي حاكها فيها باتت تحت لحافها وهي عاجزة عن رد الشكر لهذا التفاعل الوجداني معها ، فيجيبها بكل عفوية :
( ولو واجبي )
فالشاعر صقر في هذه القصيدة كان متميزاً في تركيب مفرداتها ، سهل التلقي والتعبير في المعنى الذي يروم أن يوضحه للقارئ بشروط الصياغة الفنية والبلاغية وأثرها في تمييز القصيدة وإيقاعها في النفوس ، هذا الاندماج في فكرة التمييز جعل القصيدة الغزالية منبراً واسعاً مفتوح الأبواب يثير ويؤثر في نفوس المتلقين ، كون هذه الإنزياحات والإثارة التي يجسدها في القصيدة والتي تحمل المعنى الوافي للوطن والأرض والحبيبة ، كفيلة أن تثير الأغراء في النفوس ، ولأنها انطلقت من ذات الشاعر القلقة وحبه الذي كاد يزامن شكوكه بمحبوبته الجامحة كغزاله الهارب من الوجود !! فيقول :
( تحاول أن تطمئن لمعرفتي
بخفايا الجسد ،
فتسأل : ما عمق قلب المحب
إذا ما الحبيب أبتعد ؟ )
ويحاول هنا في قصيدة ( غيابك ) أن يوضح لها بأنها ليست رقماً عابراً لديه أو حلماً في منامه :
( غيابك هزَ السكينة
يغلق باباً ويفتح بابْ ،
غيابك يترك أسئلة في فضائي
ويترك أسئلة في فضاء الكتابْ ،
بماذا أقابل هذا الحنين ،
وقد جئته بيد خاليهْ ،
بماذا سأرشو الهواء،
ليجلب عطرك لي
مرة ثانيه ْ !! )
هذه الصور التي تكمل جسد الغزال في مجموعة الشاعر صقر الصادرة عن دار الينابيع بدمشق ، هي قصائد الذات المترنحة والمطاردة التي زامنت القلق المنبعث بمداعبته الزمان والمكان ووجه الحبيبة الذي يبدو له كغزاله الجامح ، لذا نراه يهيم بتخيلات وسحر نقائض الرابطة التي تبدو غير متينة كما هي ظاهرة في قصائد المجموعة !!
فإنشاده إلى الذات المعذبة والجموحة تمنحه المرونة من كتابة هذه التجليات كي تقربه إلى المكامن المستورة ومقاربة النظرات الجميلة والأصوات المخنوقة التي ما برحت تنازعه وهو في علياء برجه العاجي الذي يمكنه من الإشراف المباشر لغزاله ، فالأسئلة التي تمركزت في قصيدته الغزال تفضح في قراءتها الشاعر عليشي لما تثيره من هواجس وغليان عاطفي تمركز في ذاته الشاعرية وهويته المسكونة بالعزلة والفراق لغزاله فأنجبت هذه الفضاءات الشعرية المبدعة التي تعصف بذات المتلقي وهو يقرأ في هذه المرايا السحرية الجميلة !!
لا أريد أن أطوف في نهايات هذه المجموعة بقدر ما أود أن أوجه أنظار القراء إليها والسفر بين خلجاتها ، والتمتع في صورها المبدعة !!
المراجع
almothaqaf.com
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع