ثمة سؤال كثرما يتبادر إلى الأذهان عن مغزى وجود الخيال المحلق أو المرتفع لدى البعض دون الآخر، فهذا ابن شهيد الأندلسي لا ينفك عن السمو في مخيلته حتى نراه في تحليق دائم ، فجاء الوصف لديه مرتفعا عن الأرض سابحا في السماء، كما ورد في وصف البعوض أو النحلة التي قال عنها :
وطائِرِةٍ تَهْوى كأَنَّ جـَـناحهـا
ضَمـِيرٌ خـَفِـيٌّ لا يُحَدِّدُهُ وهـْمُ
أو وصف السماء الصافية :
ورَعـَيْتُ مِن وَجْهِ السَّمَاءِ خـَمِـيلـةً
خـَضْرَاءَ لاحَ البَدْرُ مِن غُدْرانِهَا
وكَأَنَّ نـَثـْرَ النـَّجـْمِ ضأَنٌ وسـْطـَهَا
وكَأَنـَّمـَا الجـَوْزاءُ راعِي ضأنِـهَـا
وكَأَنـَّمـَا فـيـه الثــُــريـّــا جــوْهــرٌ
نـَـثـَـرتْ فـَرائِدهُ يدا دبرانِها
ولم يك ذلك حكرا على الشعراء فحسب بل قاسمهم الرسامون السرياليون هذه الخيالات أمثال الفنان الروسي الكبير شاجال ، الذي يرسم في عالم خلو من الثقل ، تطفو فيه الأجرام ، حتى نراه في إحدى لوحاته يسير فوق السحاب ممسكا بذراع حبيبته التي تبدو كالسابحة في الهواء، وكما يتجلى في لوحته (العاشقان محلقان في المدينة) التي يصور فيها عاشقين يهيمان عاليا فيما تبدو المدينة من تحتهما ببيوتها الصغيرة ، وهذا عين ما نراه في لوحته الأخرى (وجهان وكأس) .
لعل هذا الخيال المحلق لا يتأتى لأي كان ، فقلة هم من حباهم الله هكذا موهبة لنلمح هذا السموق في أعمالهم بين الفينة والفينة. ومن ضمن هؤلاء المبدعين الشاعرة الجزائرية (أروى الشريف) وهو أمر بديهي لمن أبصرت النور في مدينة محاطة بالتلال. فهي ولا شك قد اعتادت على التأمل في مرتفعات تلمسان موطن سكناها في جنوب الجزائر. وكأنها استمرأت النظر إلى تلكم الأعالي مطلقة لخيالها العنان في تسلقها حينا أو الوقوف على قممها أحيانا أخر ، وكأني بجبل ( لوريد) يستفز لديها الرغبة في معانقته أو حتى الدنو منه ، إذ لم يكن لها من أصدقاء سوى الطيور والجبال ، الأمر الذي اترع لديها الرغبة في الطيران والهجرة نحو السماء الزرقاء في سمو روحي يمثل الانعتاق من أدران واقع سفلي إلى نقاء علوي صاف ، يغذيه نفس صوفي لشاعرة سليلة بيت اتخذ من الطريقة (الطيبية) رياضة روحية سلوكا ومنهجا ، لتترصع إثر ذلك قصائدها بأجرام طافية في الهواء وأفلاك تومض في كبد السماء المرصعة بالماس والزبرجد والياقوت .
في قصيدتها ( في أقاصي الشمال) نواكب قلبا يطير في رحلة نحو أقاصي الشمال . رحلة أشبه بالمخاطرة (قلب هاجر_ قلب سافر_ سافر قلبي_ غادر قلبي_ خاطر قلبي_ طار قلبي إلى أقاصي الشمال ولم يعد) وخلال هذه الهجرة الجوية نشاهد(نوارس حملت الربيع في كواكب الليل ومواكب أسكرت النجوم حضنت فساتين القمر) .
كما أن زرقة السماء تغشي أبصارنا بعد أن يستبيح قلبها الكون الأزرق (قلبي والندى والزرقة سكنوا روحي_ الشوق والمدى والزرقة استباحوا سكينتي) حتى المروج في هذه القصيدة تبدو لنا زرقاء (لي قلب هاجر إلى مروج زرقاء) .
إننا لا نستغرب حضور الزرقة لدى شاعرة كأروى الشريف، لم تزل عيناها تجوسان خلال سماء تلمسان وفوق جبالها، تستمع لشدو الطيور على الشجر وترقب حبها لبعض، فليس لها من أصدقاء هناك سواها .
أقاصي الشمال
لي
قلب هاجر
إلى مروج زرقاء.
لي
قلب سافر
غامر و خاطر.
إلى أقاصي الشمال
نوارس حملت الربيع
في كواكب الليل
و مواكب أسكرت النجوم
حضنت فساتين القمر.
لي
قلب كنبع الفضة.
لي
قلب تتفجر فيه
مروج الذهب.
سافر قلبي
و لم يعد
تربع على عرش النوارس
بعث في أسراب الفراشات
ألوانها السبع
غامر قلبي
فتح المدينة من
أبوابها السبع.
إلى أقاصي الشمال
سارعت أنفاسي
احتلت الأرض
في طبقات سبع.
خاطر قلبي
استباح الكون الأزرق
رصع قلبي
السماء الدنيا
بالماس و الزبرجد
و الياقوت
قلبي و الندى و الزرقة
سكنوا روحي
الشوق و المدى و الزرقة
استباحوا سكينتي
طار قلبي إلى
أقاصي الشمال
ولم يعد.
المراجع
almothaqaf.com
التصانيف
شعر شعراء أدب ملاحم شعرية