عرف أدبنا القديم أسماء كثيرة لقصائد قيلت في مناسبة كما في الروميات لأبي فراس الحمداني في أثناء أسره عند الروم و الاعتذاريات للنابغة، واللزوميات لأبي العلاء المعري ومجاميع شعرية كما في الأصمعيات للأصمعي والمفضليات للمفضل الضبي وكلها عرف شعراؤها، واشتهر جامعوها.
أما هذه القصائد والمقطوعات التي أطلقنا عليها اسم (التدمريات ) والتي قيلت في سجن تدمر الصحراوي حيث قضى فيه مئات المئات من الشباب المسلم من غير ذنب أتوه : إلا أن يقولوا ربنا الله ، فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا .. فحسب قائليها أنهم كانوا صادقين، ولأماناتهم راعين !!
فهذا (( أبو عمر )) أخذ إلى السجن وهو لا يزال في أول المرحلة الثانوية وكان ذنبه أنه أوصل طعاما لأستاذه المتواري.. يهزه الشوق إلى أمه وقد أمضى اثني عشر عاما صابرا محتسبا
بقي السهادُ مُلازمي أوَّاهُ لما خطرت بخاطري أماهُ
وبدا خيالُك من بعيد مُسفرا عن وجهكَ الوضاءِ ما أبهاه !
وتسمرت عينايَ تنظرُ حبَّها والوجـدُ قتَّالٌ بداء هَواه ؟
وجدٌ أنار الشوقَ بين جوانحي للـهِ كم اشتــاقه أواه!
ولطالما أخفى فؤادي سِرَّه فإذا بدمعي اليوم قد أفشاه !
و أما الشهيد (( أبو مصعب )) فيخاطب ابنته الصغيرة ويترك لها صورة له رسمتها حروف قصيدة يقول فيها :
أرِقَ الرقادُ بُنيتي لسهادي والحزنُ أغمد سيفَه بفؤادي
والبدرُ ناءَ بوجهِه عن مقلتي مذ صار قَيدي قاهرا لمرادي
عشتُ الحياةَ مجاهداً بعقيدتي أحمي اللواءَ بمهجتي وزنادي
ما كنتُ يوماً أستكينُ لظالم تبَّا لسجنٍ موثـقِ الأصفاد
عهدي لربي لا أخونُ بعهده إنْ فُكَّ قيدي من عُرى الأوغادِ
سأكون نوحا من جديد فوقها وأقول :بُعْدا عصبة الإلحاد
وأما هذا الشاعر الذي أراد لأبياته أن تكون أهزوجة يترنم بها إخوان يوسف ((عليه السلام )) وهم في قيودهم ، فيحمل هم وطنه حتى وهو خلف القضبان :
لا تُبالي يا شآمْ وامْسَحي دمعَ الخُدودْ
إنَّ نصرَ الله آتٍ رُغمَ طغيـانِ القرود
لا تظني قد نَسِينا نحن لا ننسى العهود
قلبُكِ المحزونُ نادى أين انـتم يا أسود
نحن يا أختاه أسْرَى خلفَ قضبانِ الحديدْ
فاطمئني سوف نأتي مثلما تأتي الرَعودْ
وتثور حمية تدمري آخر غضبا لدين الله ، وقد تطاول المارقون ،وشمخت بأنوفها الإمعات وقد خلا لها الميدان وكان شأنها كما قال الشاعر : ((خلا لك الجو فبيضي واصفري )) تثور حميته الإيمانية يرتقب رياح الإيمان التي تكنس كل المأجورين فيقول :
قم يا حفيدَ محمـد وارَفعْ لواءَ المسلمين
فالقيدُ ضَجَّ بمعصمي والظلمُ طال على الجبين
مجد الصحابة فليَعُـدْ هـيَّا فهُـبـُّوا فاتحين
ويهتف آخر وقد رأى كوكبة من إخوانه تساق إلى الموت في محكمة ( .. ) قاضيها لا يصحو من سكر و جلادوها لا يفترون عن أذى وشتم ، محكمة تصدر أحكاما جاهزة ، رئيسها هو القاضي والخصم ، يهتف وهو يعلق على صدور إخوانه وسام الفوز عند البلاء :
تفيضُ الأماني خلالَ الظلام وينزف صدرُكَ خلف الحديدْ
و ما كان يُثنيك حقدُ اللئام فيا أيها ( التدمريُّ )الشهيدْ
عليك السلامُ….عليكَ السلام
إذا مزَّقَتْكَ نيوبُ الذئابْ ومَزَّقَ أشلاءَك المجرمونْ
فَنَيْلَ الشهادة حلمُ الشبابْ ومثواكَ في جنة الخالدينْ
فنِعمَ المقامُ بدار السلامْ
أخي نحن بعد الأذى والهوان سنعلو على الخلق : إنس وجانْ
لنا الصدرُ أو منزلٌ في الجنانْ فلسنـا نخــافُ أذاةَ الجبانْ
كراما نموتُ ونحيا كرامْ
وتضج في إحدى الزنازين كلمات كالرعد القاصف وقد سمع المكبلون أصوات التكبير ((الله أكبر ولله الحمد ))
في سبيل الله قمنا نبتغي رفع اللواءْ
فَلْيَعُدْ للدين مجده أو تُرَقْ منا الدماءْ
ويشعر الذين ينتظرون أن الذين قضوا نحبهم مضى بهم قطار الشهادة بإذن الله تعالى إلى جنة الرحمن وهم يهتفون : غدا نلقى الأحبة مخمدا وصحبه ،فيرددون على لسان شاعرهم :
الليـلُ و الإعصارُ و التدمـريُّ النارُ
وثـورة في فؤادي يمور فيــها الثارُ
يا شـمعةً تُسْتـنَارُ كم يصعُبُ الانتظارُ
أنا الأسيرُ أنـادي والقيدُ يُدْمي فؤادي
أروى عُروقيَ غَيْظٌ ولهفةٌ للجهـاد ؟؟
وتهب نسائمُ الذكريات من تاريخنا الإسلامي العبق فيتسلل أريجها على رغم أنف القيد والسجان ، يجد المؤمنون فيها ريح الإيمان ، ويلتمسون من خلالها نور الحق الذي جَهِدَ أعداءُ الحق أن يطمسوه في قلوب الفتية الذين آمنوا بربهم ، فزادهم هدى :
فهاهي ذي القوافي تتمرد على الأسوار ، وتشق غياهب الظلم فيقول أحد شعراء سجن تدمر :
نورٌ أضاء الخافــضين فأبشرِ يا بـلدةَ الصحـرا بصبـحِ أنورِ
شرفٌ أتــاكِ من الإله بأحمدٍ تيهي على كسرى وقيصرَ وافخري
ودَعي رؤوس اللاةِ و العُزَّى فما أشقى الورى بشـريعة المُسْتَعْبِدِ !!
وما أسعد الدنيا بسنة أحمد وشرعة الإسلام ، فهي لم تعرف العدل ، و ما ذاقت الكرامة إلا في ظلاله ، ثم تمضي الذكريات بالشاعر إلى موقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين يرد عليه واحد من عامة المسلمين ، فيتقبل ذلك ويصغي له :
فأجاب عمرٌ بوجه باسمٍ طيّبْتَ واللهِ بـقولكَ خاطري
ما قال عنه مجرمٌ أوخائن ………………….
حتى ولا أمَرَ الجنودَ بسوقه حتى يحاكمَه (( القضاءُ العَسْكري ))
كلا و لا أمر القضاءَ بسجنه عِشرين عاما في صَحارى (( تدمرِ ))
و يعلم هؤلاء المكبَّلون في الأصفاد أن لكل أجل كتابا وان هذه الدنيا دار عبور لا دار قرار ، وأن شجرة الإسلام لم تورق إلا بدماء الجيل الفريد من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنها في كل عصر تروى بدم الغيارى ، وأن الله تعالى قد اختار من بينهم شبابا في طهر ماء السماء ليكونوا شهداء على طريق عزة الإسلام ورسوخه ، ولتكون دماؤهم لعنة تنصب على الظالمين ،وعاصفة تقتلع ما شيدوا وما يعرشون !ولسان حال الشهداء يقول لهم :أ بالموت تخوفوننا هو والله حبيب إلى قلوبنا كحبكم للحياة ،فانتم احرص الناس على حياة ونحن أحرص المؤمنين على الشهادة لا نقيل و لا
نستقيل نمضي على طريق حمزة وجعفر وعمر وأبي عبيده ومن قال حين عاين الموت :
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
وهاهو ذا (( أبو مصعب )) ، رفع الله مقامه في عليين ، يطلقها صريحة بجنان ثابت ، و عزم راسخ ، وإيمان لا يتزعزع فيملي على إخوانه الذين ينتظرون قصيدته الغراء قبل استشهاده بساعة في ساحة الإعدام بسجن تدمر يقول _ طيب الله ثراه ،وأناله مبتغاه :
طال اشتياقي للحبيب محمـدٍ يا نفس طيبي فاللقا قد حانا
هذي الملائكُ والصحابةُ حولَهُ ورجالُ صدق بايَعوا ((مروانا))
حَفُّوا بساطَ الموت في شوق لنا والحورُ تنشِدُ خلفَهم ألحانا
والروضُ زُلْفى والكؤوسُ مليئةٌ والعينُ تجري ريحُها ريحانا
لا لغوَ فيها أو عناءُ معيشـةٍ فالرزقُ دانٍ رقةً وحنانا
فاسـكنْ فؤادي لا أبالي ميتةً يَجزيكَ ربي نَضْرةً وجِنانا
إن الجنانَ على البحور مصائبٍ مَنْ كان يبغي فليكن رُبَّانا
سأظل دوما ما حييتُ مجاهداً بدمي وروحي مسلما(( إخوانا))
ويظل هامي للـثريا شامخا وشِراكُ نعلي فوقهم تيجانا
وتمضي كوكبة إثر كوكبة ، لتنطلق أرواحهم في حواصل طيور خضر ، و ما هم بميتين ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون ويسجل شهداء تدمر صفحة في تاريخنا الإسلامي المعاصر بلون الدم وريح المسك .. ويضيفون إلى ديوان شعر الجهاد و المصابرة قصائد لا يمحوها الزمن .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع