يطفو العراق على بحر من النفط ، غير ان اهله لا ينامون ليلهم ، ولا يأمنون على حالهم. الامن ليس مجرد عنوان لتخويف الشعوب ، وهو نتاج تعب وسهر "المؤسسة الامنية" وشبابها ، ولا يجوز التفريط به تحت اي عنوان.
الرصاص الحي في فلسطين والعراق ولبنان والسودان والصومال واليمن يجعلك تتذكر كم انت في نعمة كبيرة. في الاردن مُشكلتنا الوحيدة اقتصادية ، وتعرف ان الامن ليس امن الدولة بمعزل عنك او عن الناس ، والاردني الذي يُشغل محرك سيارته في الثالثة فجرا لشراء نسخة من الصحيفة او علبة سجائر ، هو في نعمة من الله ، وهذه النعمة لم تتأتَّ الا لان هناك مؤسسة تعمل لاجل امن البلد والناس ، وهناك شعب يعرف اليوم ان امن البلد ، هو رأسماله الاساس ، الذي يجعله يُحارب في كل توقيت وكل مكان ، من اجل عدم تصدير الخراب اليه.
نتذكر تفجيرات عمان ، وكيف شعر ستة ملايين مواطن بهلع امام الجريمة ، وقد سافرت مع اقرباء الشهداء الى العمرة ذات رمضان ، بعد ان ارسلهم الملك الى العمرة على نفقته وبمعيته ، وقد لا تُصدقون انهم في حالة ذهول حتى بعد مرور سنوات على الصدمة المروعة ، الصدمة التي سكنت عيونهم ولم تغفُ هذا الذي فقد ابنته.. وذاك الذي فقد شقيقه ، فتعرف ان اهم شيء في الدنيا هو الامن والاستقرار. الامن الذي لا تعتدي فيه الدولة على الناس ، ويقف الجميع على قلب رجل واحد من اجل بقاء البلد آمنا مستقرا ، حيثما ولينا وجوهنا ، وفي وجه من يتربص بنا.
الحكومات لدينا ترفع سعر النفط ، وبعض رؤساء الحكومات يظنون ان حكمتهم في ادارة الرفع هي السبب في عدم وجود ردود فعل فوضوية. اعتقد ان السر يكمن في وعي الناس ، الذين قد لا يتقبلون رفع سعر النفط ، لكنهم يعرفون ان حولهم وحواليهم تجارب سيئة جدا ، ويفهمون ان نقل "الفوضى الخلاقة" الى بلادهم تحت اي عنوان ، هو كمن يقطع وريد ابنه وابنته ، وطمعنا ليس في الامن والاستقرار وحسب ، فهناك دول تجمع بين الامن والرخاء. هذا النموذج الذي نريده ، ولا نطرح الامن بديلا عن الرفاه ، لكننا نُذكر بكون الامن اولا ، لانه يجعلك مستقرا ، ولا تفر من بلدك.
نتضايق احيانا حين توقفك دورية الشرطة لتسألك عن رخصتك ، لكنك في قرارة نفسك تقبل الوقوف ، احتراما للدولة ، ولانك تعرف انهم يبحثون عن غيرك ، وادوات الدولة في محاربة التطرف والارهاب ، لا حد لها ولا شروط مسبقة حولها ، لان الدولة لا تنتظر الخراب حتى يُطل برأسه علينا ، وبعدها نضرب كفا بكف ندما. الدول اليوم ، تخلع جذور الشر حيثما كان ، لان دائرة الشر متصلة ، فان لم تذهب اليها ، جاءت اليك ، وهذا الفرق بين من ينتظر عدوه حتى يباغته ، وبين من يباغت عدوه وهو في مكمنه.
"الامن الناعم" في الاردن ميزة تفتقدها دول كثيرة ، تقوم بذريعة الامن بارباك حياة الناس ، وتصفية الخصوم ، وهتك حرمات الحياة والبيوت. لدينا المعادلة مختلفة وعاقلة واخلاقية ايضا. لان كل البلد تعرف بعضها البعض ، ولان كل انسان فيه يمت بصلة ما الى الاخر ، فتكون المعادلة معادلة ابناء البيت الواحد ومسؤوليتهم تجاه بيتهم ، مهما كانت مشاعر البعض فيه تفيض بالغضب او القلق او الضنك ، فان واجبه لا يتوقف ، تجاه بيته ، ولا يتمنى له ان يحترق ، فواجبك تجاه وطنك ، مثل واجبك تجاه والدك ، فعليك ان تبره وتحترمه وتعترف له ، مهما كان ناعما او قاسيا معك.
للاردن كل الحق والوسائل في الدفاع عن نفسه ، وهي قضية لا تحتمل المجاملات ولا.. الالتباسات والتأويلات ، لان من يفعل ذلك ، يقدم لابنك وسادة طرية للنوم ، لكنه قد يسحبها من تحت رأس ابنه هو ، ويُفضّلك عليه كما في حالات كثيرة ، ويكفينا في الاردن اننا لا نتغول على بعضنا البعض ، بذريعة المخاطر الامنية ، التي لا تتكشف للناس احيانا ، واذا كان بعضنا يتناسى عن عمد حساسية الموقع والمكان والتاريخ والجغرافيا ، والمخاطر ، فان عليه ان يتذكر ان غيره لا ينسى ولا يتناسى ، ولا يُجامل على حساب الناس واستقرارهم.
"الامن الناعم" عنوان اردني بامتياز ، مردوده علينا ، وادواته تصنعها الجهات المختصة ، شكلا وتوقيتا ومكانا ، ولا تُوّظف العنوان ، لاستفزاز الناس ، بل تُوظفه مردودا ايجابيا عليهم.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة ماهر أبو طير جريدة الدستور