ما بَرِحَتْ ثقافتنا بين شَبا حدَّين: الانغلاق في الماضي، باسم الأصالة، والانفتاح على تياراتٍ هوجاء، باسم الحداثة والمستقبليّة والتنوير. وإذا كان السيف الأوّل يحملنا على الجمود، فالتحجّرِ، فالتدحرجِ بلا تفكير ولا إنسانيّة, فإن الأفعَى المقابلة تدفعنا إلى اتّخاذ مساراتٍ من الانغسال من الهويّة والثقافة- الوطنيّة أو القوميّة- ومِن ثَمَّ الانسلاخ منهما، إنْ على المستوى الفكري أو السلوكي. ووراء هذين الاتجاهين تكمن أهدافٌ سياسيّة وفكريّة، قد تَخْفَى، لكنها باتت اليوم مفضوحةً، وإنما الغريق في ثورة الاتصالات الحديثة، وانفتاح الفضاء الذهنيّ البشريّ على الذات والآخر، لا يملك إلّا أن يتشبث ب"قشَّةٍ" من تلك القشاش التي كانت له في الماضي سواري تحمل أشرعته. أمّا اليوم، فما عاد إلّا القليل ممّن لم يستيقظوا بعد يجهلون الطريق اللاحب. الطريق الذي يأخذ من ماضيه الصالحَ، ويَذَر ما سوى ذلك، ومن الحاضر والآخَر ما يفيده ويبنيه، ثم يمضي في سبيله، لا يتعثّر في عُقد الماضي، ولا يذوب في سراب المحاكاة والتقليد. غير أنه طريقٌ لم يعرفه العرب بعد؛ ربما لأنهم ذوو عقول قَبَليّة، فهم لا يعرفون التفكير دون محرِّكات الذهن العصبيّة، نحو هذا أو ذاك، ولا يحتملون النقد والاختلاف. كلّ أمرهم يتحوّل بينهم إلى داحس والغبراء، منذ الجَدَل حول أشعر بيت إلى الجَدَل حول ديوان العرب، أهو الشِّعر أم الرواية؟! أمّا على المستوى الفكري والاجتماعي والثقافي، فحدّث ولا حرج؛ الدماء تسيل بينهم إلى الرُّكَب، ومنذ الأزل. هكذا جُبلوا، وهكذا عاشوا، وهكذا تصعلكوا في الغبراء والخضراء، وسيبقون هكذا فيما يبدو، حتى يلج جملهم في سَمِّ الخياط! ذلك لأن الثقافة في أنساقهم الغالبة ليست بقيمةٍ أخلاقيّةٍ وحضاريّةٍ، بمقدار ما هي منبر جاهٍ وصِيْتٍ، وتشكيل عصابة جديدة أو قديمة.
الطريق الذي أخذتْ به كلّ الأُمم التي بَنَت حضارة، وأصبح لها في العالم شأن، لا يحبّذه رَبْعُنا، لأنهم لا يعرفونه، أو لأنه يَحْرِمهم متعة الشِّقاق، والشِّقاق لديهم كالماء للسمك. وما المخاض الأدبيّ إلّا لُبّ تلك المخاضات الثقافيّة. والأمر في الشِّعر متعلّقٌ بلُبّ اللُّباب، من حيث اتصال الشِّعر باللغة والهويّة والروح الإنسانيّة المتطلّعة أبدًا إلى الأجمل والأكمل.
-2-
ولنقف على نموذجٍ من تلك المُراوَحة القلقة بين هذين الحدَّين، من خلال شاعرٍ كبيرٍ، لا مزايدة على شِعريّته، ولا على وعيه الثقافي. ونحن إذ نقف هذا الموقف، فما ذلك إلّا لأهميّة الشاعر ونموذجيته النوعيّة، ولا سيما في سَبْر تلك الإشكاليّة الثقافية المطروحة أعلاه. نلحّ على هذا الاستدراك لأن هنالك من لا يفهم النقد إلّا مدحًا أو قدحًا؛ فينظر إلى النصّ النقدي بوصفه نصلًا مع بني فلان على بني فلتان!
لقد عاد نموذجنا محمود درويش في كتاب يوميّاته الذي نُشر بعنوان "أثر الفراشة"(1)، إلى الشِّعر البيتيّ في عددٍ من النصوص. عاد إلى القصيدة العربيّة الموزونة المقفّاة بعد طول هجر. بل ليس من الحيف القول: عاد درويش المبدع للشِّعر الحقيقيّ بعد تاريخ من (الشِّعر الإعلاميّ)، باسم المقاومة، ومن الانشغال بتسجيل السيرة الذاتيّة شِعرًا؛ إذ كان يجلس يوميًّا للكتابة القسريّة في موعدها المرسوم، كأيّ محرِّرٍ صحفيٍّ، يؤدّي واجبه المفروض. وهو ما كان يأخذ من الشِّعر لحساب الصحافة، ومن الشِّعر لحساب الخطابة، ومن الشِّعر لحساب القضيّة. لكنّ من الحقّ القول إنها قد بدت قصائده البيتيّة دون التوهّج الدرويشيّ مقارنةً بقصائده التفعيليّة! إذ يبدو أن القصيدة البيتيّة ليست وزنًا وقافيةً فقط/ ليست نظمًا. ولعلّ هذا التصوّر التبسيطيّ هو ما أغرى الناظمين بهذا الشكل من البناء، وأجفل معظم الحداثيّين عنه. القصيدة البيتيّة بركانٌ من التوتّر اللغويّ والإيقاعيّ والدلاليّ في آن. لذلك كان يُطربنا الجواهريّ بقصائده المتوافرة على تلك الطاقة الشِّعريّة الساحرة، الغامضة، التي لا يُحسُّ نبضَها أيُّ قارئٍ ولا كلُّ ناقدٍ، ما لم يكن مرهف الإصغاء لأصوات اللغة في موروثها الموغل في ذاكرته. إذ تمتح القصيدة من معدن ذلك الغامض الفاتن، الذي لا يملك المحلِّلُ دائمًا كشفَ جميع أسراره. إنها نوعٌ من العموديّة التي تحدّث عنها القدماء، كأبي علي المرزوقي، لا باتّباع سنن القصيدة الجاهليّة بالضرورة، كما كانت العموديّة القديمة، ولكن بإكساب النصّ ظِلاله الإشاريّة والأسطوريّة، التي تحمل المخيّلةَ إلى عالمها الجمعيّ، ذي الملامح الخاصّة المائزة، التي لا تُشبه سحنة شِعرٍ آخر لشعبٍ آخر. وبذاك تحافظ على سماتٍ فارقةٍ، تجعل القارئ يُدرك أن هذا شِعرٌ عربيّ، لا انجليزي أو فرنسي أو روسي، لا للغته أو لعَروضه فقط. تُحافظ على الاختلاف الذي يُحَسُّ ولا يُجَسُّ، ويُتذوَّق وإن لم يُفسَّر؛ مع الاختلاف الذي لا يُذيب الشاعريّة العربيّة في شاعريّات أُمم أخرى.
تلك الخصائص تحتاج إلى حفرٍ أعمق وأوسع، ليس هذا بمجاله، غير أن المسلّمة الأُولى التي يكشفها شِعر درويش في سنيّه الأخيرة أن الشاعريّة العربيّة لا تقتصر علاماتها الفارقة على العَروض أو على اللغة. نقرأ في الدرويشيّات الأخيرة، من البحر الوافر، بعنوان "على قلبي مشيت"(2):
على قلبي مشيتُ ، كأنَّ قلبي ** طريقٌ، أو رصيفٌ أو هواءُ
فقال القلبُ : أتعبَني التماهي ** مع الأشياء، وانكسر الفضاءُ
وأتعبَني سؤالكَ : أين نمضي ** ولا أرضٌ هناك... ولا سماءُ
وأنت تُطيعني ... مُرني بشيءٍ ** وصوِّبني لأفعل ما تشاءُ
فقلتُ له : نسيتُكَ مذ مشينا ** وأنت تَعِلَّتي ، وأنا النداءُ
تَمَرَّدْ ما استطعتَ عليَّ، واركضْ ** فليس وراءنا إلاّ الوراءُ
ربما تلفتنا في نصٍّ قصيرٍ كهذا كلماتٌ، قد لا تكون مألوفة لدى درويش، ك"مُرْني"، "تَعِلَّتي". ما يشير إلى أن القصيدة البيتيّة تستدعي معجمًا خاصًّا يطاوع الوزن والقافية، وإنْ كان هذا يخضع في نهاية المطاف لمهارة الشاعر. فنحن نعرف مثلًا أن شاعرًا كنزار قبّاني- وعندي أن شاعريّته إجمالًا قد تكون في بعض جوانبها أعظم من شاعريّة درويش، لولا أنه استمرأ التصفيق، وأغراه خفق المعجبين والمعجبات، ولأسباب لا شِعريّة بالضرورة، فأمعن أحيانًا في المباشرة والنثريّة- قد استطاع أن يطوِّع القوالب العَروضيّة العربيّة لكلّ أنفاس اللغة المعاصر، بل اليوميّة، لتأتي القصيدةُ لديه في ثوبٍ عربيٍّ أصيلٍ، حداثيٍّ معاصر(3).
ولدرويش في تلك المجموعة نصوص من البحر البسيط، كقصيدته "في صُحبة الأشياء"(4):
كُنّا ضيوفًا على الأشياء، أكثرها ** أقلّ منّا حنينًا حين نهجُرُها
أو قوله من "ربيع سريع"(5):
مَرَّ الربيعُ سريعًا مثل خاطرةٍ ** طارت من البال- قال الشاعرُ القلِقُ
بطبيعة الحال لم يكتب درويش قصائده تناظريّةً هكذا، كأبيات الشِّعر العربي، بل فَرَّقَ دماءها بين الأسطر، بطريقةٍ تُوْهِم الناظر أنها قصائد تفعيلة. أ لأنّ الشاعر يستنكف أن يظهر- بعد مشواره التحديثيّ الطويل، الذي أصدر فيه مجموعات كاملة، بعضها على تفعيلة يتيمة، ولاسيما "فاعلن"- قد عاد إلى قواعده سالمًا، وإن ببضعة نصوصٍ قصيرة جدًّا؟
درويش نحسبه شاعرًا كبيرًا، على كلّ حال، ولم يكُ في حاجةٍ إلى التواري خلف الأشكال الفنّيّة، أو الهرب من مثالب قبيلتَين على حدَّين متطرّفَين، من مزاعم التقليديّة والحداثيّة، بناءً على معايير شكلانيّة سطحيّة.
[للبحث بقيّة].
(1) (بيروت: رياض الريس، 2008).
(2) م.ن، 87- 88.
(3) ولا ينفي هذا أن المعجم الشِّعريّ مستويات، حتى لدى الشاعر نفسه، وذلك بحسب الموضوع، والزمان، والمكان، والعُمر، وتطوّر التجربة. ولو اتّخذنا شِعر نزار قبّاني معيارًا هاهنا، فإن آية ذلك فيه أن نلحظ تفاوت لغته بين ديوانه الأوّل، الذي نشره في سِنّ مبكّرة، بعنوان "قالت لي السمراء"، 1944، وديوانه الذي كتب نصوصه قُبيل وفاته، "أبجديّة الياسمين"، ونشره أولاده 2008. فهو في قصيدته الأولى من ديوانه الأوّل، بعنوان "ورقة إلى القارئ"، مَن كان يقول، مستهلًّا ديوانه، في لغةٍ قد لا تشبه لغته المعروفة مِن بَعد:
كمَيس الهوادج شرقيّةً ** ترشّ على الشمسِ حُلوَ الحِدا
بأعراقيَ الحُمرِ "إمرأةٌ" ** تسير معي في مطاوي الرَّدَى
أتحسب أنك غيري؟ ضللتَ! ** فإن لنا العنصر الأوحدا
(4) م.ن، 115.
(5) م.ن، 127. وانظر كذلك نصّه بعنوان "مناصفة": ص231، وغيره.
المراجع
almothaqaf.com
التصانيف
شعر شعراء أدب ملاحم شعرية