يأتي الندى فجراً ، وتكبيرات "الله اكبر" يتردد صداها من مكة الى القدس ، فتدمع عيون الاقصى ، فتمتد يد مسجد قبة الصخرة بحنو بالغ ، على رأس الاقصى ، تمسحه ، تخفف عنه آلامه وجراحه.
هذا الصباح ، لا يغفو فيه الاقصى ، فلم يغفُ منذ ستين عاماً واكثر ، تصحو البلدة القديمة ، وبيوت المقدسيين الحجرية ، على يوم بعده عيد ، ويخرج الرجل المثقل بالهموم وقد جاوز الثلاثمائة عام عمراً ، ليشتري حلوى العيد.
يسير محني الظهر ، ابيض الوجه ، وعصاه "له فيها مآرب اخرى" في ممر حجري ، والحجارة القديمة باردة ورطبة ، وعليها رموز عبرانية حفرها الغزاة قهراً ، رغم انين الحجر وصراخه.
يفتح حقيبته ، يجد فيها مطرقة وازميلا ، فقد كان يعمل في "دق الحجر" في مطلع شبابه ، وينسى حلوى العيد ، ويأتي الى الحجارة التي تم الحفر عليها عنوة ، ويدقها من جديد. يطرق بازميله الحجارة ، حجراً تلو حجر ، تتساقط الرموز ، رمزاً وراء رمز ، تاريخاً وراء تاريخ.
صوت الحجيج وهم يكبرون يتردد صداه في البلدة القديمة ، وكأن "عرفة" في القدس. ليس غريباً ، فقد كانت الصلاة الى المسجد الاقصى قبل ان يقال.. "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها".
الجباه التي ركعت ذات يوم باتجاه القدس ، ما زالت هنا ، سيماهم في وجوهم من اثر السجود ، ونورهم يسعى بين ايديهم.
يدق سبعة الاف حجر في ساعة ، وتكبيرات "عرفة" في اذنه ، وكأن هناك من يقول له ان "عرفة" التي قرب مكة ، وسيأتي يوم تكون فيه "عرفة" في القدس ، والجمع ليس جمع المزورين ولا التجارة والباعة والمشترين.
جمع الدم هو. الحج الاكبر سيكون في القدس. سأل العجوز نفسه سؤالا.. هل يجوز نقل عرفة الى القدس؟ تمتم بشفتيه وسكت.
لم يسمع جواباً ، غير انه وهو يطهّر الحجر من سواده وجد حجراً بنقش يقول انه في آخر الزمان تأتي عرفة بأرضها وسرها وجموعها الى القدس ، فيكون التكبير عند الاقصى ، والرجم قائم قبل التكبير في عرفة ، والشيطان في مذبحته يستغيث فلا يستجاب له.
غيمة بيضاء ، من زمزم المقدسة ، تأتي من مكة الى القدس المقدسة ، غيمة بيضاء ، كيف تجمعت هذه والبئر تحت الارض ، تصل الغيمة الى القدس ، تنهمر ماءً وسلوى وصبراً وبشرى على المسجدين الاسيرين.
تنهمرعلى رؤوس المقدسيين ووجوههم ، حتى زيتون القدس قيد القطاف ، ينير ويضيء ، وكأنه اول المحتفلين ، بغسله ايضاً.
تشرق الشمس هذا الصباح ، والقدس اسيرة ، وحمام القدس البري يطير من كف الى كف ، يلتقط القمح المنثور في الارض المباركة ، كل حبة قمح ، روح غاضبة ، ينقلها الحمام الى ارض اخرى ، يزرعها ، فتصبح القدس بيدراً من الرجال ، يأتي اوان حصاده.
اذ كانت ثالثة المدن المقدسة ، غائبة واسيرة ، فان لا عيد ولا سعد ، فأي عيد هذا وكل يوم يتم هدم غرفة جديدة ، وسرقة ورقة جديدة من زيتون سيأتي شاهداً على الذين سقوه ، واولئك الذين اغرقوه ماءً مالحاً لوأده في ارضه.
تكبيرات "الله اكبر" يتردد صداها من مكة الى القدس ، والغيمة يتساقط ماؤها فوق الاقصى ، وغسيل الكعبة ، هذا العام ، لا يتم الا بغسيل الاقصى ، واذ كنا لا نراه بعيوننا ، فان غسل المدن المقدسة هذا العام يراه المستبصرون.
ها هي الايدي البيضاء كذات يد موسى المحمدية ، تدير الطيب والمسك ، على جدران الكعبة والاقصى وقبة الصخرة ، فتستفيق ارواح الجند على المشهد الموعود منذ الف عام وفوقها اربعمائة من الصبر.
في يدي اليمنى ، اثار العطر ، وبشارة ، وراية تخفق عالياً ، وشربة ماء من زمزم اسقيها لمسجدي ، فيتزول اثار الجفاف عن شفتيه ، فاصلي واكبر ، في هذا اليوم واقول: ان الاقصى معطر ببشارة الغسل ، وبشارة العودة ، وبشارة من سكينة ورحمة.
صباح العطر من مكة الى القدس.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة ماهر أبو طير جريدة الدستور