بكت، ذرفت دمعة، في يد العجوز، كانت تلك الحمامة البرية، برية عند مطلع الشمس، وغروبها، غير انها في كف العجوز، تتخلى عن تمردها، اذ تم ترويض روحها مثل فرس.

تنهد العجوز. بلغ من العمر تسعين عاماً. سألها عن سر الدمعة. لم تجب. مسح بيده البيضاء على رأسها. سكتت. روت له حلماً غريباً، رأته في تلك الليلة. هل يحلم الحمام البري. لمَ لا. الحلم اجمل الاشياء.

حكت انها وقفت عند بئر الماء لتستسقي، وان سبعة من الرجال كانوا قد فرغوا من وضوئهم. اقتربت من حافة البئر، استسقت. فاضت البئر لاجلها. شربت. سمعت صوتا في قاع البئر ينادي. تلفتت يمنة ويساراً. وجدت «السيارة» قد غادروا لتوهم، ومعهم عزيز مصر في محنته.

خفق قلب الحمامة. طار وطاف. تقلب وتجلى. رافقت الطفل الصغير في سفره. حتى وقفت عند شباك الطفل الصغير في بيت الفرعون. نثر لها القمح. اضاءت حبات القمح مشارق الارض ومغاربها.

حكت الحمامة وحكت، بأن الطفل الجميل شب. وفي عينيه لمعة حزن غريبة. رأت في عينيه حزنه الشديد. وفي قلبه خط واصل الى قلب ابيه، الذي ابيضت عيناه من الحزن على ما فقد. ايه.. يا ولدي، حتى كأني اجد ريح يوسف من بعيد.

قالت بعد ان توقف دمعها، انها في الحلم رأت نفسها فوق ذات البئر مرة اخرى، سبعة رجال فرغوا من وضوئهم. وقطرات الماء المتناثر مثل حبات الندى، تلمع في ضوء القمر. سبعة رجال فرغوا للتو من الوضوء، اعمارهم تشي بأنهم من الف عام واكثر، ووجوهم، كذات عشريني.

طافت الحمامة وجالت فوق مدينة من حجر، ولكل حجر قلب، ولكل قلب سر، ولكل سر حكاية، ولكل حكاية ميقات، ولكل ميقات قدر، ولكل قدر حكمة، وفي كل حكمة، صفحة تطوى من الزمن.

حكت الحمامة انها في المرة الثانية حين ذهبت الى البئر، وفي ذاكرتها قصة الطفل الجميل الذي شب في بيت الفرعون، ورائحة الطفل المعطرة التي تصل الاب المكلوم، لم تر سوى الطفل الذي شب ووالده، عند البئر، قدموا بعد ان فرغ الرجال السبعة من الوضوء.

في يوسف قصة مدينة ايضاً. هكذا قالت الحمامة. لم يُعلق العجوز على حكمتها. وقفت عند البئر ورأت يوسف واباه. فاضت البئر بالدم. استسقت السماء من البئر ايضاً. وعادت السقيا دماً. غسل المدينة الغائبة. غسل حجارتها. حجراً.. حجراً.

مع كل قطرة. قلب يصحو. مع كل قطرة دم. نبضة تعود الى الحياة. رأت الحمامة فيما رأت ان الطفل الذي شب ووالده فتحا ابواب البيوت العتيقة، اخرجا الاف الاطفال الصغار من محابسهم الاف النسوة ورجالا جرحى.

شهداء ايضاً ينزفون يمشون على الارض. كبار السن يحملون مفاتيح بيوتهم. خرجوا بالالاف من البيوت العتيقة وكأن القيامة قامت.

من اين جاء كل هؤلاء؟ تنزلت ارواح بالملايين.. ارواح بيضاء. هذه روح اعرفها. الم تكن لصلاح الدين الايوبي. هذه روح اعرفها .اليست لكاتب الجيش. هذه روح ثالثة اعرفها، اليست لشهيد من بغداد في فلسطين. هذه روح اعرفها اليست لشهيد من غزة، وتلك من عمان، واخرى من الكرك واخرى من عجلون، واخرى من دمشق، واخرى من مصر.

اقشعر بدن العجوز اذ تروي الحمامة حلمها. انحنى ظهره. سقط دمعه. كأنه در منثور. او قل كأنه ثلج الجنة، الذي لا يذوب في صيف حار. التقطت الحمامة دمعاته. دمعة تلو اخرى.

هل ستعود مدينة الحجر، التي لكل حجر فيها قلب، الى اهلها؟ وهل سيشهد يوسف وابوه، عودتها؟ سؤالان طرقا قلب العجوز. لم يعرف الجواب. في يده عصا يتوكأ عليها وله فيه مآرب اخرى. وهارون اخي اشدد به ازري، كان يرقب المشهد من بعيد. طرق الارض بعصاه. مثنى ثلاث ورباع.

اشرقت الشمس والحمامة تروي حلمها الطويل للعجوز. الحمامة تحكي، وهديل العجوز مرتفع، وكأن لسان احدهما بات للاخر. كل شيء ممكن. يوسف لم يمت. مثل يوسف رجال كثر في محنتهم. مثل يوسف مدن شربت منذ ذات قدر يوسف وبئر يوسف.

اذ تعود مدينة الحجر التي لكل حجر فيها قلب، فلا تعود الا كيوسف.عزيزة بين المدن. ألم يذهب يوسف غلاماً جميلا مأسوراًَ باعوه بثمن بخس، وعاد عزيزاً. ايه من اخوه يوسف.. يا من باعوا المدن مثلما بيع يوسف.

المدينة في سجودها الاول قالت في صلاتها «يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ»، فسجد معها الملايين في سجودهم الثاني وردوا عليها بقولهم «ورَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا».

طارت الحمامة، بعد ان تركت حلمها في اذن العجوز الذي ينتظر منذ الف عام تلك البشارة، بعد ان غردت بصوتها الجميل وسجدت سجودا ثالثاً وقالت «اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ».

سلام عليك ايتها «القدس» آناء الليل واطراف النهار.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   ماهر أبو طير   جريدة الدستور