لو استطاعت اللغة العربية- جَدَلًا- أن تتغلّب على أدوائها الذاتيّة، وعلى خطورة ما يُشْرعه في وجهها الإعلام والتعليم والاستعمال اليوميّ- فإنها ستجد نفسها في مأزق آخر، تُدافع فيه عن وجودها ضدّ غزوٍ خارجيٍّ رديف، متمثّلة أولى درجاته في الازدواج اللغويّ، بين العربيّة وغيرها من اللغات. ستجد نفسها مهضومة، مضطهدة، مزدراة في الحياة العامّة، وحتى في التعليم. فلقد باتت وزارات التربية والتعليم تتسابق لتلقين الإنجليزيّة في المشرق، وتلقين الفرنسية في المغرب، ومنذ مراحل التعليم الأولى. هذا فضلًا عن تاريخٍ عريقٍ من اعتماد معظم جامعاتنا التعليمَ بلغةٍ غربية، ولاسيما الإنجليزية، في التخصصات العلميّة. وذلك كلّه يأتي، بالضرورة، على حساب اللغة العربية. وذلك كلّه يجعل العربي أمام إكراهٍ لا مناص عنه: الجهل بلغته والمعرفة بسواها؛ إنْ هو أراد أن يعيش، وأن يجد الوظيفة في سوق العمل، (بلا أمل) في سويّة إنتاجية وحضارية تُذكر. بل إن العربيّ ليجد اليوم نفسه أمام هذه الجبريّة إنْ أحبّ أن لا يشعر بالاغتراب في بلده «العربيّ»، غير الناطق بالعربيّة، أو حتى أن يَظهر بمظهر المتعلِّم والمثقف المعاصر أمام أقرانه المتباهين بغير ألسنتهم. في هذا الواقع العربي لم يعد مهمًّا أن يكون العربيّ أُميًّا، أو شِبه أميٍّ، لا يُحسن القراءة والكتابة، ما دام «يرطن» بغير العربيّة، وإنْ على نحو من الأنحاء الركيكة، على سبيل لغة «عربيزيّة» أو «عَرَنْسِيَّة»! أ فيكون من الحَيف القول إن التعليم العربي قد تطوَّر تطوَّرًا مشهودًا في العقود الأخيرة، مرتفعًا من «محو الأُميَّة» في ديار العرب إلى «محو الهويّة العربيّة» نفسها؟! شاء من شاء وأبى من أبى، ذلك لا يبعد كثيرًا عن الحقيقة! وتجاذَب العربيّةَ الجناحُ (الأنجلوسكسونيّ) في مشرق الوطن العربي والجناح (الفرنكوفونيّ) في مغربه، لتُمزَّق بينهما كلّ ممزَّق.
إن اللغة، كما يشير المفكِّر محمّد أركون، هي أداة، إذا استُعملت قويتْ، وإذا لم تستعمل تراجعتْ وصدئتْ، وعلى الفكر إذن أن يفرض على اللغة أن تعطيه الأفكار، وأن تواكب تطوَّره(1). وهذا كلامٌ سليمٌ نظريًّا. أمّا تطبيقيًّا، فإن أركون نفسه كان يقول هذا ويفعل خلافه، فهو لا يكتب دراساته باللغة العربيّة، بل بالفرنسيّة، أو الإنجليزيّة! ومِن ثَمَّ فقد كان عمليًّا يُسهم بدوره في خذلان لغته، وفي جمودها، ويقول ما لا يفعل! ولئن كان هذا من مفكِّرٍ كأركون، فكيف بمن دونه؟!
وتزداد الإشكاليّة اللغويّة تعقيدًا مع التقنية الحديثة، وفي بيئات مستهلكة، لا مصنِّعة للتقنية ولا منتجة للبرمجيّات. وفي هذا المعترك يكون التنبُّؤ بمصير العربيّة عسيرًا؛ من حيث هو مصير مرتبط بمكانة العرب من العالم؛ ولأن تاريخهم عبر القرن الأخير لا يبشِّر بخَير؛ بالنظر إلى إخفاقاتهم في التقدُّم خطوة نحو ما يحمي اللغة حقًّا من غائلة اللغات، التي تستفحل مع الوسائط الاتصاليّة الحديثة. والعلاقات بين اللغات كالعلاقات بين الدول، منها مشروعة وضروريّة ونافعة، ومنها ما هو ضربٌ من التدخّل في الشؤون الداخليّة، ومنها ما هو نوعٌ من انتهاك السيادة الوطنيّة، أو الاستعمار. ومِن هذا وذاك ما يترصّد العرب، كما يترصّد لغتهم، «حتى يغيِّروا ما بأنفسهم».
وهنا تبدو خطورة الوسائط الاتصاليّة المعاصرة، عُلوًّا وحَطًّا من شأن اللغة. وهي لذلك أخطر أثرًا من التعليم المباشر؛ لأنها مستمرّة البثّ، واسعة الانتشار، عميقة التأثير. إنها حياة الناس، وغذاؤهم اليوميّ، على شتّى المراتب الاجتماعيّة، والمشارب الثقافيّة.
فماذا تُرانا في عالمنا العربيّ نمارس بهذا السلاح؟! أ ولا نرى اليوم أن اللغة العربيّة تُنتهك ليل نهار في البلدان العربيّة؟ لقد صار شيئًا معتادًا أن نسمع المذيع، والمذيعة، والممثلين، والمغنِّين، والأدباء، والشعراء، والوزراء، والسُّفراء، يتحدَّثون مستوى لغويًّا واحدًا، هو لغة الشارع والحياة اليوميّة. بها يُذيعون، غالبًا، وبها ربما يكتبون، في الأرض وعبر الفضاء الواسع. هذا فضلًا عن تلك البرامج العامّيّة، أو حتى نشرات أخبارٍ تُذاع باللهجة العامّيّة في بعض البلدان المغربيّة. وفوق هذا قد بات من المعهود أن يكون بعض المشتغلين في الإعلام، ومخاطبة الجماهير، هم من أنصاف الناس صلةً باللغة العربيّة، على النحو الصحيح، والنصف كثير. وإذا كان في وسع الصحفيّ أن يجد مَن يتولّى إرشاده في كتابة تقاريره ومقالاته، أو مَن يصحِّحهما له، فليس للمذيع مِن ذلك مِن شيء؛ وسينفث، إذن، في آذان الناس لغةً مريضة مُعْدِيَة. هذا إلى ما يغلب اليوم على هؤلاء من فقرٍ مدقعٍ في التأسيس الثقافيّ، ومجافاةٍ في الذوق، وضحالةٍ في التفكير. على أن ليس العمل الإذاعيّ بالأمر الهيِّن، بالنظر إلى المقوِّمات الواجب توافرها في المذيع، وتأثيره العميق في جمهرة المتلقّين. وهو تأثير يشمل اللغة والثقافة والشخصيّة في آن. لأجل ذلك كان الفحص الشديد لمن يتقدّم لإجازته مذيعًا: صوتًا، ولُغةً، وسَمْتًا، وثقافةً، كما هو الحال في شأن مَن يتقدّم لإجازته مِن المطربين. كان ذلك قبل حين من تاريخ الإذاعة العربيّة، وكان المذيع إذ ذاك نجمًا، بل كان بعض المشتغلين بالإذاعة من عِلْيَة الأدباء واللغويّين. وانحدر المستوى اليوم كثيرًا، في مؤشِّرٍ ثقافيٍّ على انحدارٍ عامٍّ في ضروب شتّى من الحياة. كان المذيع يُحاسب حسابًا عسيرًا على خطأ لغويّ يسير، أو عيبٍ أدائيٍّ عابر، في حين بات يُسمَع الخطأ الآن حتى في آيات القرآن، بلا اكتراث لذلك، لا من منبر الإعلام ولا من الجمهور. وهكذا، فبعد أن كان الإذاعيّ- من قارئ نشرة الأخبار إلى المعلّق الرياضي- على مستوى عالٍ من الكفاءة الصوتيّة والأدائيّة واللغويّة والثقافيّة، أصبح الجميع على شَفا جُرفٍ من ذلك كلّه. يحدث هذا مع أن دَور المذيع باللغة العربيّة هو أخطر من دَور المذيع بلغة أخرى؛ من حيث إن المذيع العربي يمثِّل هذه اللغة في مجتمعٍ شحَّ تعامله بها، فصار تلقِّيها مرتبطًا بهذا الإذاعيّ أو تلك الإذاعيّة؛ حتى لقد اقترنتْ اللغة الفصحى في مخيّلة الناشئة وفي وجدان العامّة بلغة المذيعين وطرائقهم في الإلقاء. ولعلّ مَن عاصر بدايات الإذاعات العربيّة يَذْكُر من نفسه أن العربيّة قد ارتبطت نموذجيّتها في نفسه بهذا المذيع البارع أو ذاك، ممّن أُعجب بأدائهم إبّان نشأته، وتأثَّر بطريقتهم في الإلقاء، فإذا استخدم اللغة حاكاهم، وتقمّص أصواتهم، وأساليبهم في التعبير. أمّا اليوم، فأيّ لغة يسمعها الناشئة؟! وماذا يُحاكون، في هذا الخضمّ من الأصوات المعتّقة بالعامّيّة، المكبّلة بالتكلّف، وبنمطيّات الجُمل الممطوطة بلا مضمون، مع اهتمام فارغ بالهيئة الخارجية للمذيعين في التلفاز، وإنْ على حساب اللغة ومهارات التحدّث والحوار؟ لا ريب أن المقوِّم الأوَّل للإذاعي كان ينبغي أن يكون لغته وصوته، لا صورته وهندامه، وأن تأثير هؤلاء- أُحْسِن تقويمهم أم أُسيء- لا يقلّ عن تأثير مدارسنا في ضعف اللغة العربيّة وقوّتها، ولاسيما في بيئةٍ ما تزال سماعيّةَ التلقّي.
حتى إذا التفتنا عن تلك الصورة السلبيّة، لم نَعدم ملامح ثقافيّة عامّة يؤدّي الإعلام فيها أدوارًا لغويّة إيجابيّة، وإنْ بطرائق غير مباشرة. منها برامج الأطفال، "كرتونيّة"، أو تمثيليّة، أو غنائيّة، عربيّة أو معرّبة. وهي شاهدة على أن اللغة إنما تحيا بالاستعمال، وتَبْلَى وتموت بالإهمال. وأدب الأطفال- الذي يمكن أن يُقدّم من خلال تلك المنافذ الفنيّة- هو أخطر من أدب الكبار؛ لما يستدعيه من جودة لغويّة وإتقان فنيّ؛ ذلك لأنه أدب يتوخَّى التربية ويهدف إلى التأسيس والتنشئة والبناء. وفرقٌ بين ما هذه غاياته وما غايته الإمتاع والتسلية ومخاطبة متلقٍّ افتراضي، قد يروقه أو لا يروقه، فيُقبل عليه أو يُعرض، بحسب الذائقة والثقافة. وعلى الرغم من خطورة أدب الأطفال تلك، فما أكثر ما يُستخفّ بتجويده، استخفافنا عادةً بالأطفال. يُساق لهم منه الركيك، ويُسلق لهم العابث والهزليّ الهابط، موكولًا أمره إلى طوائف من كبار السُّوقة والمهرِّجين! أجل، لقد كان من ثمرات بعض تلك الأعمال المقدّمة للأطفال- على عجرها وبجرها- أن أصبح سماع الأطفال يتحدّثون العربيّة الفصحى أمرًا لافتًا. وهم، لا شكّ، يودّون لو استعمل أهلوهم تلك اللغة التي تعشّقوها من أبطال مسلسلاتهم، فراحوا يحلمون بعالَمٍ عربيٍّ كعالَمهم، لكنهم ما ينفكّون محاصَرين بتلكم الألسنة السقيمة، مقموعين بها في البيت وخارج البيت. بيد أنه- كما انحطّ الإعلام المسموع إلى الدارجة في بعض الأقطار العربيّة، ثم تبعه الإعلام المرئي، وبعض المقروء- فمِن أسفٍ أن برامج الأطفال، التي كانت لا تُـقدَّم بغير الفصحى، قد غزتها العامّيّة في السنوات الأخيرة أيضًا. ودارت رحى المنافسة في ذلك بين لهجاتٍ عربيّة رئيسة، كان لها رصيدها الإعلاميّ والفنّيّ في السماء العربيّة؛ لكيلا تُحرم الأجيال الصاعدة من معين العامّيّات الآسن، ولا من استثمار تلك المرحلة العمريّة (التأسيسيّة) في تكوّن المَلكات اللغوية خيرَ استثمار! «...هكذا تُخصَى الطفولات لدينا، يا بُني!»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شاهد حواره في برنامج «إضاءات»، بقناة «العربية»، على موقع «اليوتيوب»:
http://www.youtube.com/watch?NR=1&feature=endscreen&v=8gR2q3pDg7I
المراجع
alraimedia.com
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع