كانت الساعة تشير الى الثانية عشرة ليلا،وصديقنا هذا الذي يروي حكايته،يقول ان سيدة فقيرة اتصلت به،في تلك الليلة،لتشكو اليه جوع زوجها الثمانيني المصاب بشلل نصفي،ويعيش وزوجته في خيمة في بستان،وانها لاتعرف ماذا تفعل امام جوعه الشديد؟.

الخيمة منحها صاحب البستان مؤقتاً للزوجين الكهلين،وهي خيمة اقاما فيها سنين الصيف والشتاء،ومابينهما من تقلبات مؤلمات.

خرج صديقنا من بيته،بعد منتصف الليل بحثاً عن مطعم واشترى طعاماً.كل مافي جيبه كان خمسة دنانير فقط.من هناك توجه الى البستان،حيث يعرف العنوان،والحر شديد ليلتها،واذ بالرجل ُممّد على فراش غير نظيف،بجانب الخيمة،يئن من الالم والجوع معاً.

جلس اليه ليطعمه في هذا الوقت،وصديقنا هذا مدين،ويعاني من ظروف صعبة،غير انه انتخى للعجوز في هذا الوقت المتأخر،ويزيد من حكايته قائلا:وجه العجوز كان متعباً وعيناه شاخصتان الى السماء،وكأنه في عالم آخر،فيما كنت اطعمه ببطء بسبب مرضه.

مرت تلك الليلة،وعاد الرجل قبل الفجر الى منزله،فيما كانت المفاجأة ان مالا له تم سلبه دون وجه حق،قبل سنين،من جانب شريك عربي،عاد اليه فجأة،بعد اتصال اجراه شريكه المتمنع عن الاعتراف بالدين وحق الرجل،قائلا له ظهر اليوم التالي،انه حّول له خمسين الف دولار،نصف حقه وحقوقه،وسيحول بقية المبلغ بعد اسبوع.

سر الصدقة معروف في اطفاء الخطايا،والحديث النبوي يصف الخطايا عملياً بالنار،والصدقة ماء يطغى على هذه النار،والصدقة ايضاً،تشفي المريض،وتبارك في المال،وللصدقة باب من ابواب الجنة،وتظلل صاحبها يوم الحساب.

في القرآن آيات كثيرة عن الصدقة واسرارها،حتى ان الله يطلب من الناس ان يداينوه قرضاً حسناً،من مال هو صاحبه،وفوق طلب الاستدانة من المخلوق،تعهد رباني برد المال اضعافاً مضاعفة،وهو طلب لايرده من به بقايا حياء.

يقول ابن شقيق:›سمعت ابن المبارك وقد سأله رجل عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين،وقد عالجها بأنواع العلاج،فلم ينتفع به، فقال: اذهب فأحفر بئرًا في مكان بحاجة إلى الماء،فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ›.

سرالصدقة في رفع المرض والبلاء واضح كالشمس،وليس بحاجة الى اختبار،ولايبدد سر الصدقة الا اخضاعها للاختبار والتجريب.

يقترب منا رمضان،وهو شهرتتنزل فيه البركات،وبيننا هذه الايام فقراء ومحتاجون،في كل مكان في المملكة،في القرى والبوادي والمخيمات والمدن،فوق اللاجئين،من كل مكان،والصدقة فيه مفتاح رحمة،خصوصاً،مع حدة الفقر،وتدميره للبنى الاجتماعية للناس.

ليس من جمال في الروح والقلب،كما مد يد الاغاثة للمحتاج،دون ان نمن عليه،ودون ان نفضحه بين اهله وجيرانه ومجتمعه.

لست بحاجة الى ان تكون ثرياً حتى ُتجري الصدقة على غيرك،لانك ان اعطيت من قليل،سبقت من اعطى من كثير،وصاحبنا في مطلع الحديث اشترى طعاماً للعجوز بخمسة دنانير،لكنها كانت كل ثروته،وكل مايملك فعلياً.

ُيحكى ان شيخاً جزائرياً كريماً جداً،جاء اليه سائل يطلب منه صدقة،فبكى الشيخ،قائلا ان لامال لديه،فقد انفق كل ماله،وبكاء الشيخ لم ينقطع امام حسرته بعدم قدرته على مساعدة السائل.

وصل الشيخ الى حل،عبر خلع رداء ثمين كان يلبسه،ووهبه للفقير حتى يبيعه ويستفيد من ثمنه،مكفكفاً دموعه امام الفقير المحتاج.

اخذ الفقير الرداء الى السوق،ووقف من اجل بيعه،وجاء اليه مسافر،سائلا اياه عن ثمن الرداء،قائلا له انه يريد شراء الرداء لشيخ جليل قدم لزيارته من مكان بعيد،وبالفعل اشترى الرداء،ودفع ثمنه للفقير.

توجه الشاري الى ذات الشيخ الذي كان قد تبرع بالرداء،اساساً،ُمقدماً اياه كهدية،دون ان يعرف اصل القصة،واصل قصة الرداء،فيما دموع الشيخ انقلبت الى ابتسامة سرها الرضى،فما نقص مال من صدقة.

مامن قيمة عظمى في الحياة..كما تذكرك للاخرين.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   ماهر أبو طير   جريدة الدستور