أحد النواب كتب على صفحته على الفيسبوك قائلا: «كلنا نحمل وسام عاهاتك ياوطن» والنائب اكاديمي ومثقف ومحترم، بلا شك، وقد اثارت عبارته ضجة كبيرة؛ لأنها تحمل اشارات متعددة وقابلة للتأويل وسوء التأويل.
العبارة اخذتني الى ماهو أعمق؛ إذْ إننا نتبادل جلد انفسنا والشعب والبلد، ولربما تسمع دوما الذي يضيق صدره من الحياة هنا، يقول بشكل اعتيادي: «ارض مالحة ووجوه كالحة» وآخرون يقولون: «يلعن هيك بلد» والشتائم بالعامية تسمعها دوما، ولاتعرف لماذا نتسم بإطلاق الشتائم
، على عكس شعوب أخرى، بل نسترجل على حالنا، ولانترك كبيرة سوداء الا ونلصقها بأنفسنا؟ | .
الشعب المصري فريد من نوعه، إذْ لو عانى المصري كل انواع العذاب في مصر او المغتربات، لسمح لك ان تشتمه أو تشتم اهله، لكنه لايقبل ابدا شتم مصر، ولاشعب مصر، ولاتسمع على لسانه شتائم من اي نوع تجاه مصر؛ فقد انزلها مكانة الأم وقدْرها.
عدوى شتم البلد ومكونات البلد، انتقلت عندنا الى العرب، من عراقيين وسوريين وغيرهما، وهم إذْ يسمعوننا نجلد البلد ونأكل لحم بعضنا بعضا، يصبح سهلا لديهم التطاول علينا في حالات كثيرة، وهذا يفسر حوادث مختلفة نسمعها كل فترة.
تسمع ايضا تصنيفات اجتماعية قائمة على الشتم، فهؤلاء يصفون هؤلاء بألفاظ يعز على المرء ذكرها، وهؤلاء يردون على هؤلاء ايضا، والقوالب جاهزة بين الناس، والصورة النمطية المتبادلة باتت ثابتة، من هو جبان ومن هو شجاع،من هو بخيل ومن هو كريم، الى آخر هذه المصطلحات التي باتت تنضح عند كل نقاش بين الناس؟ | .
التصنيفات تمتد الى قصص الفلاح والمدني والبدوي، والكل يصف الكل، والكل يضع العيوب في الكل، برغم ان الدنيا اليوم، لم تعد قائمة على التصنيفات القديمة، بل اختلطت الانماط الاجتماعية وإنْ تأثرت بجذورها الاساس.
لو سافرنا واسترقنا السمع في المطار على مايقوله المغادرون؛ لوجدنا حجم الشتائم مرتفعا؛ وكأن الناس تفر من سجن مظلم، غير ان المفارقة انهم بعد ايام فقط يشتد بهم الحنين الى البلد واهل البلد، وكأن حمى الكراهية فارقتهم.
يعيش بعضنا خارج البلد او يزور بلداً لعدة ايام، فيعود إليك ليروي حكاياته، وكل العيوب التي يراها في ذاك البلد،تصبح سمات ايجابية، وملامح تراثية ومزايا شعبية، ويبقى المرءُ متغزلا في البلد الذي اكرمه بوظيفة او زاره بشكل عابر، بل ان المفارقة انه يقول لك عن المتسول في ذاك البلد: انه فقير اجبرته الظروف-ياحرام-على التسول، ويقول عن المتسول البلدي هنا انه نصاب لابد من حرقه | .
لدينا ثقافة كراهية وعدم انتماء للمكان، ويجهد كثيرون في تعزيز الانتماء، ويصير الانتماء دليلا عند البعض على الوطنية الزائفة او النفاق او المزاودة، مع ان هذا البلد على صغر مساحته وقلة امكاناته، تفرد عن غيره بكونه اعظم بكثير من الاخرين، وقلة الانتماء مردها الى التربية في البيوت والمناهج والسياسات الرسمية غير الجمعية، والاصرار على سلب المكان ذاكرته وقيمته التاريخية.
هو من الارض المقدسة، وهو ايضا حمل على ظهره اثقال الجوار بعد ان حلت بهم البلاءات، وتكفيه هذه الميزة امام الله والتاريخ.
ثم ان العيش النكد، وضنك الحياة، لايجعلانك تشتم اهلك وبلدك، ولو رأيت الف قصة في النهار، لاتعجبك، فإن هذا لايقودك الى شتم البلد والناس، ولايأخذك الى الضلالة بعدم رؤية الساطع في الاشياء، والنبيل في الحياة.
نرى شعوبا اكثر فقرا منا، لكنها لاتشتم اوطانها، والمرء لاينسى لجاره كأسا من شاي، فما بالك ببلد احتضن الجميع،وكان يداً حانية؟ | .
اشتم الحكومة والنواب والمؤسسات كما تشاء، غير ان البلد والشعب، لايحق لاحد شتمهما، ولاتلطيخ صورتهما، لا تحت وطأة الشعور بالظلم، ولاتحت سيف الحياة النكدة، ولاتحت مبرر الغضب، فالعقوق جريمة لاغطاء لها ابداً.
«ولاتقل لهما اف»..هذه هي الخلاصة | .
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة ماهر أبو طير جريدة الدستور
|