لا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك أدباً شيوعياً أو ماركسياً ذا حدود وأبعاد وملامح معروفة، يفرزه شيوعيون ماركسيون، وهو يعالج موضوعاته من زاوية أيديولوجية مادية حادة جداً بالنظر إلى معطيات هذا الأدب وأهدافه، ورفضه الآخر، رفضاً حاسماً.
وقد أبان عن كل ذلك «لينين» عام 1905م، في مقال له بعنوان «تنظيم الحزب وأدبه»، وفيه يرفض أي نشاط أدبي أو فني لا يكون في خدمة الحزب.. وفي هذا المقال الغريب يقول: «لنتخلص من رجالات الأدب غير الحزبيين، لنتخلص من هواة الأدب المثاليين.. على قضية الأدب أن تصبح جزءاً من القضية العامة للبروليتاريا، وجهازاً صغيراً من الآلة الاشتراكية الديمقراطية الموحّدة والكبيرة التي تحركها الطليعة الواعية للطبقة العاملة كلها.. على النشاط الأدبي أن يصبح عنصراً مؤلفاً لعمل حزبي اشتراكي ديمقراطي منظم».
والمعروف أن الفلسفة الماركسية تعتمد اعتماداً أساسياً على فكرة «الصراع الطبقي»، لذا نرى - كما يقول «هازلت» في الدراما الماركسية - «عالماً يتألف جوهرياً من طبقتيْن تصارع إحداهما الأخرى صراع الموت، وهما: الرأسماليون وأجراؤهم من ناحية، والبروليتاريا الزاحفة من ناحية أخرى». الأدب الوجودي الوجودية - بمعناها العام في الفلسفة - تعني «النزغة التي تعلق أكبر قسط من الأهمية على وجود الفرد في الكون وعلى صفاته الجوهرية».
وفي العقد الخامس من القرن العشرين، أُطلق هذا المصطلح على النظرية الفلسفية التي نادى بها «جان بول سارتر» في كتابه «الوجود والعدم» عام 1943م، وأساسها: أن الوجود المطلق - أو حالة الفراغ كما يسميها «سارتر» - يسبق الجوهر أو الماهية أو الوجود الفعلي، والوجود الفعلي - في نظره - عبارة عن خروج الفرد من حالة الخمول البدائي بوساطة الثورة النفسية الناتجة من القلق واليأس إلى جو من الحرية المطلقة، يستطيع فيه أن يشكل حياته بمحض إرادته متحملاً المسؤولية الكاملة عن جميع تصرفاته، وأن يضفي على العالم الذي يعيش فيه معنى ومنطقاً.
فالفرد في نظر الوجوديين هو الموجود الحقيقي، ويرتبون على ذلك أنه لا معنى إذن للقول بالطبيعة البشرية، والقول بالأخلاق التي تفرضها هذه الطبيعة، أو بالأقدار التي رسمت لها طريقها قبل أن تبرز إلى عالم الوجود، فكل فرد عام قائم بذاته يضع لنفسه أخلاقه وآدابه وعقائده وآراءه.. وإذا كان التقدير السابق عندهم غير موجود ولا معقول، فالغاية المرسومة كذلك غير موجودة ولا معقولة، وإنما الحياة فلتة من فلتات الطبيعة، جاءت بها عبثاً، وتذهب بها عبثاً.
والفرد وحده هو الحكم فيما يأتي، فليس لأحد من «المجتمع» أن يحدد له مفاهيمه أو أخلاقه أو تقاليده أو عقائده، أو تصرفاته أو سلوكه. والإله عندهم - وخصوصاً «سارتر» - ليس خرافة فحسب، ولكنه خرافة ضارة. وإيجاد الذات، وتأكيد الإنسان الفرد لوجوده الذاتي - في نظر «سارتر» - لا يتحقق إلا بإطلاق العنان للرغبات والشهوات بحيث يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، وتعترف «سيمون دي بوفوار» بأن من طبيعتها أن تجنح دائماً إلى لذائذ الجسد.
وهم في هذا المسلك غير الأخلاقي ينطلقون من إيمانهم بما ذهب إليه «نيتشه» من أن الأخلاق ليست إلا خرافات اخترعها الضعفاء ليتقوا بها سطوة الأقوياء في معركة الحياة. وتحمل الوجودية في تضاعيفها كثيراً جداً من التناقض والاضطراب، بل إن الاضطراب في قواعدها - كما يقول «العقاد» - أشد من الاضطراب في قواعد الفوضوية لأنها وجوديات كثيرة، وربما تناقض الفيلسوفان الوجوديان في العصر الواحد والبلد الواحد.
ومن عبثيات الوجودية وعدميتها التشجيع على الانسحاب من الحياة بالانتحار، فليس هناك سبب عميق للحياة، ولا معنى للسعي اليوم، ولا جدوى من الألم والعذاب، وبالاختصار فإن «الانتحار يعني بكل بساطة الاعتراف بأن الحياة لا تستحق أن تُعاش».
وكان للفلسفة الوجودية تأثير كبير جداً على الآداب المختلفة، وخصوصاً الأدب الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة لدى «سارتر» و«كامو» و«سيمون دي بوفوار».
وما دامت الحياة قد فقدت معناها وهدفها لفقدان العنصر الذي يوجد الترابط بين أجزائها، ويعطي أحداثها تفسيرها ومعناها وهو «الدين»، فإن «سارتر» يرى الحل في أن يعيش كل إنسان وحده، وأن يحقق وجوده بأن يفعل ما يرى هو أنه حق، وأنه واجب، وأنه حسن.. ففي مسرحيته «الجحيم هو الآخرون»، يرسم الجحيم في نفس إنسان يتعذب من أول المسرحية إلى آخرها من وجود آخرين لا يكفون عن الوجود حوله، ويفرضون عليه أن يكونوا موجودين معه، وبذلك يمنعونه أن يكون نفسه، وأن يحس بذاته، وأن يفعل ما يمليه عليه هواه الشخصي، فيظل ساكناً ساكتاً يتعذب، يتطلع إلى اللحظة التي يذهب فيها عنه الآخرون لينطلق بوجوده الذاتي، ولكنهم لا ينصرفون فيظل هو في الجحيم.
والأدب الوجودي - وخصوصاً عند «سارتر» - أدب ملتزم بالفلسفة الوجودية، يتبنى قواعدها ومبادئها ويعالجها في أعماله الفنية، ولكن «سارتر» يستثني الشِّعر من نطاق هذه القضية، ويرى من السخف المطالبة بالتزام شعري.. وترتكن فكرته في إخراج الشعر من دائرة الالتزام إلى فهمه لطبيعة التعبير الشعري وعملية الإبداع فيه، وإلى نوعية تعامل الشاعر مع الكلمات والأشياء.
وفي هذا افتراض واضح لقيام عالم الشعر مستقلاً عن عالم المعنى، وأن الشاعر لا يدخل في هذا العالم إلا بعد أن يحطم كل معنى في نفسه، فيعبر إلى هذا العالم الشعري على أشلاء المعاني التي أحس بها في نفسه واضحة ومحددة، إنه - بعبارة أخرى - يدخل إليه عرياناً من المعنى، ومن ثم لا يستطيع الشاعر أن يقول: إنني أريد أن أعبر عن «كذا» في عمل شعري، لأن تعبيره عن المعنى أو الموضوع المحدد الواضح له لن يكون تعبيراً شعرياً، بل مجرد تعبير، ذلك أن عالم الشعر يخلق موضوعه الخاص، ولا يمكن إقحام موضوع خارجي محدد عليه. الوجودية في الأدب العربي وقد تسرّبت الوجودية من الفكر الغربي إلى الفكر العربي المعاصر بقوة، وكان من أخطر مروِّجيها «د. عبدالرحمن بدوي»، فيما ترجمه من أصولها، وما كتبه عنها.
بل لقد حاول أن يوجد أصلاً لها، وللنزعة الإنسانية العربية التي انشقت الوجودية منها في الفكر العربي من خلال كتابات الصوفيين الغالين، والفلاسفة الذين تجاوزوا أصول الشريعة والاعتقاد الإسلامي الصحيح. ويرى عبدالرحمن بدوي أن «الشعر الوجودي يضيف للإنسان الصفة الأولى للربوبية»، وأشاد بالنموذج الذي أبدعه «بودلير» في ديوانه «أزهار الشر»، وأغرى الشعراء العرب الوجوديين بالابتعاد - قدر الإمكان - «عن اللغة الجارية كيما تستعيد البكارة الأولى التي يمتاز بها عالم الإمكان»، أما عمود النحو «فلنهدمه على رؤوس المصفدين إليه».. ولا شأن للوجودي «بأي أحكام تقويمية خارجة عن نطاقه الفني الخالص، سواء أصدرت هذه الأحكام عن الدين أم عن الأخلاق.. ومعنى هذا بكل وضوح أنه إن وجد الرذيلة أو القبح أو الشر أوفر حظاً في التمكين من الإبداع فلا جناح عليه مطلقاً في أن يتخذها.. فالخطايا والشرور والرذائل وما إليها أدل على حقيقة الوجود وأقدر على الكشف عن نسيجه».
ويمضي «د. محمد مصطفى هدارة» - يرحمه الله - في تعقب بصمات الوجودية في الشعر العربي المعاصر، ومنها توظيف الأساطير في الشعر، والشعور الحاد بالقلق والاغتراب واليأس، وكذلك النزوع إلى الإلحاد والتنكر للموروثات الدينية. ومن الذين تأثروا إلى حد كبير بمعطيات الوجودية الشاعر «عبدالوهاب البياتي» في قصيدته «مسافر بلا حقائق» في ديوانه «أباريق مهشمة».. كما ظهر الأثر الوجودي في شعر «بدر شاكر السيّاب»، وكأنه كان يستلهم «بودلير» في موقفه الوجودي الذي يعبّر عنه بالتمرد ورؤية الجمال في القبح والشر والرذيلة.
ويرى أحد الباحثين أن صرخة «سارتر» (الجحيم هو الآخرون) تتردد عند «السيّاب» في قوله: وعرٌ هو المرْقى إلى الجُلْجُلَهْ والصخرُ يا سِيزيفُ ما أثقلَهْ سِيزيفُ إن الصخرةَ الآخرون ومن أبرز نماذج الأدب الوجودي شعر «أدونيس»، فديوانه «التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار» تصوير ناطق بالفكر الوجودي في تمرده ورفضه وقلقه وفي الإحساس الحاد بالغربة. كما تأثرت القصة القصيرة بالتيار الوجودي، كما نجد في إبداع «إدوار الخراط»، و«علاء الديب»، و«محمد حافظ رجب»، و«إبراهيم أصلان»، وغيرهم.. وكذلك تأثرت الرواية بهذا الفكر الوجودي كما نرى في أعمال «سهيل إدريس»، و«جبرا إبراهيم جبرا»، و«إسماعيل فهد إسماعيل»، و«نجيب محفوظ»، و«ليلى بعلبكي»، و«الطيّب الصالح»، وغيرهم.
والمعاني العامة التي تدور حولها الرواية العربية الوجودية: إثبات الإرادة الإنسانية المتحررة من كل قيد، والمسؤولية الملقاة عليها، والقلق واليأس والسقوط والاغتراب والانفصام عن الماضي وعن المجتمع.
الأدب المسيحي
من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الفصلُ واقعياً وتاريخياً بين الدين والفن، فكلاهما - كما يقول الأستاذ محمد قطب - «انطلاق من عالم الضرورة، وكلاهما شوق مجنح لعالم الكمال، وكلاهما ثورة على آلية الحياة».
ومادة الفن هي الحياة والنفس والإنسانية، ومقوماته هي الصدق والأصالة الفنية والمضامين السليمة.. ومادة الدين هي الحياة والنفس الإنسانية، ومقومات الدين الصادق المنزّل من عند الله هي الصدق والأصالة والمثل العليا التي تتواءم مع واقع الحياة، وتتطور معها، وتشبعها بالسعادة والحب والإخاء والعدالة والحرية.
وغاية الفن الإمتاع والإفادة والتحريض على بناء مجتمع أفضل.. وغاية الدين لا تخرج عن إسعاد البشرية واستمتاعها بحياتها، وسيطرة المثل الفاضلة على علاقات البشر والدول والحكام، والتهيؤ لعالم آخر؛ عالم أفضل، والتنفير من المظالم والانحرافات، والعمل على هدمها.
وإذا نظرنا إلى الدين المسيحي رأينا له تأثيراً واضحاً في بعض المذاهب الأدبية الأوروبية منذ عصر النهضة، وكان هناك من ثار على مساس الأدباء بالقيم الدينية المسيحية مثل «جايلز فلتشر» في كتابه «انتصار المسيح».
والشاعر الإنجليزي «جون ميلتون» يرى ضرورة وجود هدف أخلاقي في الشعر؛ ويقول: إنه يصف في شعره عرش الله، ويمجد عزته لتلقين الناس معاني التقى والفضيلة، وفي مقدمة ملحمته «الفردوس المفقود» (paradise Lost)يبين أن غرضه الذي يسعى إلى تحقيقه هو إثبات قدرة الله الخالدة.
وفي القرن الثامن عشر الميلادي، ظهرت في أوروبا نظرية «العدالة الشعرية» التي تقوم على ترسيم المثل الأعلى في الأخلاق، وعلى مبدأ الثواب والعقاب. وفي القرن التاسع عشر أكد «جون ستيورات مل» النزعة الأخلاقية المرتبطة بالدين المسيحي في الفنون وكل نواحي النشاط الفكري للإنسان، ثم ظهرت «المدرسة الإنسانية الجديدة» التي وضع أساسها «أرفنج بابيت»، وكان هدفها الأسمى تقوية روح الإنسان بترسيخ القيم الدينية فيها، وإذعانه للأعراف والتقاليد المتوارثة، ومقاومة النزعات الفردية والعاطفية المطلقة دون قيود.
وعلى الدرب نفسه سارت المدرسة الكلاسيكية الجديدة أو «مدرسة الإحياء الكاثوليكي» التي أسسها «ت. س. إليوت» التي دعت إلى ضرورة بعث الإيمان بالدين المسيحي، بل دعا «إليوت» صراحة إلى ربط الأدب بالدين، والحكم على الأدب بمقاييس أخلاقية لها صفة الثبات والشمول.
وتأسيساً على هذه النظرة هاجم «إليوت» الأدب الحديث لأنه يقدم تجارب بعيدة عن الإيمان والأخلاق بحيث يعيش الإنسان في خواء الحضارة المادية دون تراث أو قيم، وهاجم المذاهب الأدبية الاشتراكية والماركسية والسريالية والرومانسية وما إليها التي لا تلتزم الأخلاق المسيحية بمفهوم المذهب الكاثوليكي بصفة خاصة.
«المروءة والوفاء»
وبعد هذه التوطئة يواجهنا سؤال يبحث عن إجابة، وهو: هل في أدبنا العربي من الإبداع ما يشكل «أدباً مسيحياً» له ملامحه الموضوعية والفنية الفارقة، شأن الآداب المذهبية الأخرى؟ إن الاستقراء التاريخي يمنحنا الجواب بالإيجاب، ولو وقفنا عند الساحة اللبنانية وحدها لطال بنا المقام، ولاحتجنا إلى بحوث متعددة لعرض «أدب مسيحي» متعدد الأجناس الأدبية، ومشبع بروح المسيحية، ولكن نكتفي بالإشارة إلى عمل درامي رائد هو مسرحية «المروءة والوفاء» لـ«خليل اليازجي»، ويقال: إنها أول مسرحية شعرية في الأدب العربي.
والمسرحية تبرز القيم الأخلاقية المسيحية من خلال واقعة مشهورة في العصر الجاهلي: فحنظلة الأعرابي الذي حكم عليه الملك النعمان بالموت في يوم نحسه يعود إلى النعمان لوعد قطعه له بعد أن ضمن عودته عربي آخر ذو شهامة وأريحية ومروءة اسمه «قراد»، ويعجب النعمان أن يعود الأعرابي ليتلقى الموت بعد أن أفلت منه، ويسأله النعمان عن مصدر هذا الوفاء العجيب؛ فيكون جوابه: إنه دينه النصرانية، ويدخل الملك النعمان وأهل الحيرة جميعاً في الدين الجديد، ويعفو عن الكفيل الشهم «قراد» وعن المكفول الوفي «حنظلة». وقد نجح اليازجي - إلى حد كبير - في عرض أفكاره والقيم التي تدعو إليها النصرانية، من خلال الحوار والأحداث التي ربط بينها ربطاً محكماً.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع