«سِرُّ السعادة أن تُشاهد عجائب الدنيا كلَّها، دون أن تنسَى أبدًا قَطْرَتَي الزَّيت في الملعقة».
كذا نَصَحَ حكيمُ الحكماء الشابَّ في رواية «الخيميائي»، لباولو كويلُّوPaulo Coelho ، الروائي والقاص البرازيليّ.
ويذكِّرني هذا النموذج بحكاية «راعي امْسَمْنَتَيْن»، الذي يُضرب مَثَلًا في (جبال فَيفاء) لمن يحاول التوفيق بين أمرين فيضيِّعهما معًا. إذ يحكون أن رجلًا أراد أن يحمل وعائَي سَمْنٍ في وقتٍ واحدٍ، كُلَّ وعاءٍ على واحدةٍ من يديه، فجعل يسير بهما، فإذا راقب الوعاء على يده اليُمنَى كيلا ينسكب السمنُ منه، انسكب سمنُ الوعاء الذي على يدهِ اليُسرى، وهكذا حتى لم يصل ومعه شيء من السَّمْن. فضَربوا به المَثَل، قائلين: «قالها راعي امْسَمْنَتَيْن!»، لمن يكون حاله كحال بطل تلك الحكاية.
ما معنى هذا؟
معناه ضرورة التوازن في النظر، والتوازن في طلب الحياة. وذلك ما يُعوزنا في كلّ شأن، وذلك ما يُخفق بنا عن وجدان ما نَنشد.
وبالنظر إلى ثقافتنا العربية نلحظ فقدان التوازن كثيرًا في حراكنا الثقافي. هذا على الرغم من أن حركة الإصلاح، وبثّ الثقافة المعرفيَّة والحواريَّة، ومعالجة الظواهر الفكريَّة والاجتماعيَّة- كالتطرُّف والغلوّ، مثلًا- كانت تستدعي ذلك دائمًا، إذ لا تُغني فيها المعالجات الأَمْنِيَّة وحدها، بل كان يجب، قبل ذلك ومعه ومن بَعده، أن تَرقَى إليها معالجاتٌ ثقافيَّة واجتماعيَّة وفكريَّة، لا الغرق إعلاميًّا في التسلية واللهو واللعب، أو في الشحن السياسيّ، والطائفيّ، والمذهبيّ، والقَـبَلِي. هذا إلى جانب ضرورةٍ أخرى، وهي أن الساحة العربيَّة تشهد هدرًا ثقافيًّا، يُعْوِزُهُ التوثيقُ ويتطلَّب بثَّه الناسُ. وفي ذلك ما يؤكِّد افتقار القنوات الثقافيَّة العربيَّة إلى أن تكون ذات أهدافٍ استراتيجيَّة، لا قائمة على مجرَّد الاستهلاك الآنيّ والترفيه. كما أنه كان يمكن لها، من خلال ذلك، أن تُبلغ الصوت الثقافيّ العربيّ إلى الآخَرين في العالم، وبلُغاتهم المتعدِّدة، وعلى نحوٍ أكثر نجاعة، وأقلّ كلفة، من الاتِّكاء الدائر على إقامة الأسابيع الثقافيَّة. بيد أن ذلك كلّه مشروطٌ بأن لا يقتصر دور القنوات الإعلاميَّة المنشود على ما يسمَّى «التغطيات»، ولكن أن تُسهم في إثراء الحقل المعرفيّ والفكريّ بالتحليل والنقد والحوار. وكذلك فإنه ينبغي لقنواتٍ كتلك أن لا تكون جافَّة المواد، محصورةً في بثّ الندوات والمحاضرات، فإذا هي تتحوَّل إلى قاعات دروسٍ ومنابر خُطَب، بل أن تضطلع ببثّ الأعمال المسرحيَّة الجيِّدة، والنشاطات الفنِّيَّة المميَّزة، والأفلام الوثائقيَّة، والسينمائيَّة، عربيَّة وعالميَّة، ونحوها من الموادّ، إلى جانب ما تعرض من المحاضرات والأمسيات والندوات والمؤتمرات.
ثم ها نحن هؤلاء في عصرٍ تلاشَى فيه مفهومٌ قديمٌ حول المراكز الحضاريَّة والأطراف التابعة، سواء في ذلك الوطن المحلِّي والوطن الكبير والعالم أجمع. ذلك أن ثورة الاتصالات المعاصرة قد قلَّصت المسافة بين البلدان، ودانت بين مراكز الإشعاع الحضاريّ وأقاصي الأرض. إلَّا أن ذلك التقارب المعرفيّ بين الأُمم والبلدان، وبين المدن والبلدات، ما كان له أن يَتِمَّ لولا إعلام قويّ، يواكب الأحداث الثقافيَّة، ويَمُدّ جسور الأضواء، بما يتجاوز نشرات صحفيَّة عابرة، أو متابعات إخباريَّة سريعة، لا تُسمن المتلقِّي ولا تغنيه من جوع. فما من شكٍّ في أن دَور الإعلام اليوم ليس بالإخبار فحسب، ولكنَّ وظيفته المُثلى في قنطرة المسافة بين الحدث ومتابعيه، وبصورةٍ مباشرة. وما لم يحدث هذا، فإن معظم الفعاليَّات الموصوفة بالثقافيَّة ستظلّ محض بهرجة احتفاليَّة بلا ثقافة، ليس ذلك لما قد يحدث من تزامنها، ومن تعذُّر حضورها، فحسب، ولا حتى لطبيعة ما يُطرح فيها، وتدنِّيه جِدِّيَّةً وجِدَّةً وجَدْوَى، ولكن كذلك لعدم قيام الإعلام بما هو حريٌّ به حيال تلك الفعاليَّات الثقافيَّة.
ها هو ذا الإعلام العربيّ يتفرَّغ تمامًا لبثِّ المواسم الرياضيَّة، أو الفعاليَّات الفنِّيَّة الترفيهيَّة، مُفْرِدًا من أجل ذلك الساعات الطوال، مسموعةً ومرئيَّة، مسخِّرًا له الصفحات العِراض، الملوَّنة المثيرة الجذَّابة، إلاّ أنه لم ير بعد- في المقابل- أن من واجبه الحضاريّ والتاريخيّ والإنسانيّ والاجتماعيّ والتربويّ أن يفعل مثل ذلك، أو مثل بعضه، من أجل الثقافة.
وما الثقافة؟ إنما تعني الثقافة في جوهرها التنوُّع، لا التنميط في قوالب محدَّدة، أو في مواطِن دون مواطِن. الثقافة هي ماء الحياة وهواؤها. وإذا كان ذلك كذلك، فإن لكلّ بلدٍ عربيٍّ ما يمكن أن يتفرَّد به ليقدِّمه؛ فالثقافة بطبيعتها تتنافَى مع المركزيَّة المطلقة.
إن المتابع اليوم لما يعجّ به الفضاء العربيّ من تضليلٍ ذهنيٍّ، ومن إغواءٍ عاطفيٍّ، وإلهاءٍ وقتيٍّ، ليتساءل في دهشةٍ إزاء هذه الذهنيَّة العربيَّة المتخطَّفة من كلِّ اتجاه: أين دَور الإعلام العربيّ عن تنوير العقول؟ أين الفضائيَّات، الغارقة في نمطين من الإثارة: دغدغة الغرائز البهيميَّة، وإثارة النعرات الاجتماعيَّة والسياسيَّة؟
لِمَ، إلى هذه الساعة، لم تَقُم قناةٌ عربيَّة واحدة لمحاربة مظاهر التخلُّف، والكُفر بالعقل، واستغفال الناس وتضليلهم، وتنشيط الجينات الخرافيَّة العربيَّة فيهم، وابتزاز شَعبٍ مغلوب على أمره من أقصاه إلى أقصاه، ذهنيًّا ونفسيًّا واقتصاديًّا، وفي وضح النهار؟
ولماذا تقف مؤسَّسات المجتمع التعليميَّة والإعلاميَّة متفرِّجة، كأن الأمر لا يعنيها؟
لماذا لم تتصدّ ولو قناة واحدة، وعلى نحوٍ احترافيٍّ، لا تقليديٍّ، لتعرية هذه البَغِيِّ الخرافيَّة الولود، التي لا تتلاعب فينا بالدِّين فحسب، بل تحقِّر قبل الدِّين العقلَ، الذي كرم الله به بني آدم.. فإذا هي تجعل الإنسان في منزلةٍ أحطّ من منزلة الحيوان، إذ تُزَيِّن له أن يَعبد أخاه الإنسان، ويقدِّس آثاره، ولو كان رِمَّة منذ آلاف السنين؟
كيف ترجو هذه الأُمَّة خيرًا أو مستقبلًا، وعقول السواد الأعظم من شعبها مأفونة هكذا، متآمرة عليها شياطين الإنس والجن؟
والتنوير والدعوة اليوم لم يَعودا قائمَين على خُطبةٍ عتيقة، ولا على فتوى محفوظةٍ مكرورةٍ منذ عشرات السنين، لكنهما قائمان على التقنية، والأخذ بوسائل الاتِّصالات ونقل المعلومات الحديثة، وعلى مواكبة العصر، في خطابٍ حضاريٍّ جادٍّ لإنقاذ جيلٍ صاعدٍ من طوفانٍ لا عاصم اليوم من أمره. وأمّا الجيل العتيق، فأمره إلى الله، فقد لا يُجدي معه الإصلاح كثيرًا.. وهل يُصلح الإعلام ما أفسد الدهر؟!
أمَّا بعض القنوات الفضائيَّة الثقافيَّة التي تبدو مخلصة في محاولة الإصلاح، فما زالت دون المستوى المأمول. ومنها تلك القنوات ذات الصبغة الدينيَّة. هذا إنْ لم تغذِّ من السلبيَّات أكثر ممَّا تُصلح. ويمكن الإشارة، على رأس معوِّقات تلك القنوات، إلى ما يأتي:
1) أنها منحصرة في مخاطبة العرب والمسلمين، وقلَّما تخاطب الآخَرين بلغاتهم.
2) يرسِّخ كثيرٌ منها النزوع الطائفيّ والمذهبيّ، سواء بطبيعة الخطاب المبثوث أو من خلال المواد المطروحة. وهو ما قد يستتبع ألوانًا من العنف اللغوي، الظاهر أو المبطَّن، ضدّ المخالفين. ويجب الاعتراف هنا أن ليس التيار المتديِّن بِدعًا في هذه الثقافة، لكنه الأقوى تأثيرًا، لارتباطه بعقيدة الناس وعواطفهم، ومن ثَمَّ تأتي خطورته الكبرى الماثلة في إمكانية توظيفه لتفجير المجتمعات. وإلّا فالتيَّارات الأخرى- ومنها التيَّارات المضادَّة، كالتيَّار الذي يسمِّي نفسه بـ«الليبرالي»- تنحو كثيرًا إلى خطابات «دوغمائيَّة»، أيديولوجيَّة متشدِّدة، وتمارس آليَّات الخطاب الدِّيني المتشدِّدة ذاتها، وإنْ بصور مموَّهة قد تبدو مختلفة، فتأتي كثير من أطروحاتها ذات صبغةٍ دينيَّةٍ خاصَّةٍ، تُسفِّه، وتُكفِّر، وتُدني، وتُقصي، ولديها هي الأخرى جَنَّتها ونارها وحُورها العِين! وتلك ثقافةٌ عامة، ومتجذِّرة، ما لم تعالج بشموليَّة، فلن تُغني فيها الشعارات، أو الطلاءات، محليَّةً أو مستوردة.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: "راعي امْسَمْنَتَيْن..!"، المصدر: صحيفة "الراي" الكويتية، العدد12069، الثلاثاء 17 يوليو 2012م، ص21].

المراجع

odabasham.net

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع